أحد الشروط الموضوعية لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان أن ينتهي اغتصاب حزب الكتائب للسلطة،
أي أن ينتهي عصر “الهيمنة الفئوية” المدعمة بالنفوذ الأجنبي والمرتبطة بالعدو الإسرائيلي.
ولقد تعودنا في لبنان، كما في سائر الأقطار العربية، أن يتمكن اتجاه أو تيار أو تنظيم سياسي من الوصول إلى السلطة بالاتكاء على محور عربي، معين في مواجهة محور عربي آخر.
وبغض النظر عن التصنيفات (يميني، محافظ، أو تقدمي واشتراكي، قومي وحدودي أو رجعي انفصالي) فلقد كان مثل هذا الصراع. وما زال، مشروعاً ومسلماً بنتائجه حتى لو لم تكن مرضية لبعض أطراف الصراع.
الجديد والخارج على المألوف في موضوع سيطرةالكتائب على الحكم إنه أتاح الفرصة – ولأول مرة منذ أربعين سنة – لكي يخترق العدو الإسرائيلي النسيج الاجتماعي في لبنان.
ذلك إن حزب الكتائب تصرف بوصفه تعبيراً فجاً عن مصالح “طائفة” بالذات، وممثلاً للتطرف داخل هذه الطائفة، وليس كتيار سياسي له وجهة نظرأخرى في ما يقع من أحداث وما تشهده البلاد والمنطقة من تطورات.
أي إن تصرفه كان يحمل شبهة خروج طائفة معينة على الوطن والأمة والتحاقها بالعدو القومي الذييحمل بدوره دفعة التطرف الطائفي واستغلال الدين لتحقيق مشروع سياسي معاد لطموحات العرب جميعاً، وبينهم بطبيعة الحال اللبنانيون.
بهذا المعنى فإن الانقلاب الكتائبي كان أخطر حدث شهده لبنان (المنطقة) منذ أجيال، لا يماثله ولا يوازيه في خطورته حتى إقدام أنور السادات على زيارة العار الشهيرة، فالسادات – بالنتيجة – حاكم ونظام حكم يزول بزواله ما أتاه، أما الكتائب، فقد تصرفت باسم طائفة متسببة بتأجيج نيران الحرب الأهلية ومعطية هذه الحرب أبعاداً مدمرة لم تكن لها ولم يكن مقدراً أن تصير لها لولا الطابع الطائفي الصريح لهذا الحزب الذي يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية ما نحن فيه.
لقد قاتل الكتائب الفلسطينيين كطائفة.
وقاتل الأحزاب الأخرى في لبنان كطائفة،
ويوم ذهب للتحالف مع دمشق فقد أصر أن يعامل كطائفة،
ثم حين انقلب على دمشق وقاتل جيشها في لبنان فلقد صور ذلك القتال للعالم، وكأنه مقاومة مسيحية لمحاولة قهر يمارسها جيش المسلمين الوافد إلى لبنان.
حتى مطالب الاصلاح الدستوري وإنهاء الخلل الفاضح في صيغة الحكم بمختلف مؤسساتها، أعطاها حزب الكتائب بعداً طائفياً فصارت نزعة إسلامية لضرب الضمانات (؟!) التي أعطيت (عبر التاريخ!!) للمسيحيين كي تطمئنهم وتهدئ روع مخاوفهم وتمكنهم من ممارسة حياتهم وعقائدهم بحرية!
ربما لهذا كله نجح حزب الكتائب في تعميق أسباب الحرب الأهلية وتأصيلها وتحويل طبيعتها، فلم تعد صراعاً سياسياً على السلطة بل تحولت إلى حرب طائفية بين “الأقلية المسيحية في الشرق” وبين جيوش العرب المسلمين الزاحفة عليها من كل حدب وصوب!
وهكذا صارالشيوعي “الملحد” مسلماً حنيفاً، ولم تعد المواجهة بين كارل ماركس وبين الشيخ بيار الجميل، بل صارت بين المسيحية والإسلام!
كذلك صار القومي السوري، والتقدمي الاشتراكي، أو البعثي، أو القومي العربي، وكلهم يرفعون رايات العلمانية، مجرد قبائل مسلمة متعصبة تواجه قبيلة مسيحية قليلة العدد شديدة البؤس عظيمة النفوذ في العالم (الغربي) هي الموارنة!
حتى المقاومة الفلسطينية المسلحة، صاحبة شعار الدولة الديمقراطية في فلسطين، كمنطلق أيديولوجي وعملي للتعايش مع اليهود، صارت في المنطق الكتائبي فتحاً إسلامياً بالسيف لبلاد المردة والجراجمة الذين استعصوا على كل الفاتحين من (أجدادهم) العرب عبر التاريخ!
نتيجة لهذا كله وقع حزب الكتائب في المحظور، فاكتسب شيئاً من المنطق الصهيوني وأسقطه على الطائفة.
ولأن لبنان كيان للطوائف، ولأن الطائفة المارونية في موقع القيادة والرئاسة، فقد لجأت الطوائف الأخرى إلى السلاح ذاته ووقعت في المحظور ذاته، فتصهينت بهذه النسبة أو تلك، واندثر ما هو سياسي في “تنظيماتها الشعبية” أو تضاءل لحساب ما هو طائفي.
أما الأحزاب العلمانية فقد تراجعت حتى كادت تخرج من دائرة التأثير، مكتفية بانتصارها الفكري الباهر المتمثل في إثبات طائفية النظام وعجزه عن تحقيق مطامح الفئات الشعبية في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية.
ما علاقة هذا الكلام “النظري” بمعركة انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟!
أين يقع سليمان فرنجية، أو ميشال عون، أو ريمون اده، في هذا السياق؟!
وأين يقع ميشال اده وميشال الخوري ومخايل الضاهر؟!
وأين يقع الآخرون من الذين، لا يظهرون إلا مرة كل ست سنوات، أو الذين أطلوا برؤوسهم لأول مرة في هذا الموسم لكي “يحجزوا” مقاعد لهم في النادي السياسي، نادي الرؤساء، فإذا تعذر فنادي الوزراء والوجهاء من أهل الحال والربط؟!
الحقيقة إن لمعركة رئاسة الجمهورية، هذه المرة، خصوصيتها النافرة، فهي إما أن تكون إنهاء لعصر الانقلاب الكتائبي، وإما أن تكون امتداداً له ، بل لأسوأ ما “أعطى” وصدرعنه.
فالكتائب قبل 1982 كانت أقل تعاسة من ذلك الحزب الذي سخره شارون لخدمته قبيل غزو لبنان وخلاله وبعده وكافأه بأن جعله يقفز إلى سدة السلطة لكي يحقق شعاره “في خدمة لبنان”!
وكتائب ما قبل 1975 كانت أقل بؤساً من كتائب الحرب الأهلية (وهذا ينطبق على الأحزاب جميعاً، في أي حال)،
ثم إن الكتائب، بكل عيوبها، تكاد تكون قديسة إذا ما قورنت “بكريمتها” التي ولدتها سفاحاً “القوات اللبنانية”،
إن هذه التحولات التي أصابت حزب الكتائب، وجعلته في طوره الأخير، عصابة مسلحة تتحكم في الحياة السياسية في لبنان باسم فئة من طائفة هي التي “تعطي” لبنان رئيس الجمهورية، قد أسقطت كل القوانين الطبيعية للصراع السياسي في هذا البلد الذي تشكل التوازنات الهشة بين فئاته شرط وجوده…
فكيف إذا حاول رئيس الجمهورية الكتائبي أو يوظف هذه العصابة الطائفية المسلحة ويستخدمها تحت شعار حماية الامتيازات أو الضمانات التي تبقي الماروني مواطناً من الدرجة الأولى في لبنان؟!
إن ثمة كتائبياً في قمة السلطة الآن،
… وثمة كتائبيين، شرعيين أو غيرشرعيين لا فرق، يتحكمون بالشارع ويصادرون القرار في “المجتمع المسيحي” بوصفهم حماته والقيمين عليه،
فمن أين يأتي الرئيس الماروني الجديد؟!
كيف له أو يوصل اسمه إلى صندوقه الاقتراع في مجلس النواب، ثم أن يوصل شخصه إلى قصر الرئاسة في بعبدا إذا ما وقعت المعجزة فتجرأوا على كتابة الاسم والجهر باختياره؟!
بل كيف للنواب أن يصلوا إلى مبنى المجلس؟!
وكيف تراهم يعودون منه، وإلى أين، إذا ما قرروا أن يركبوا رؤوسهم فيختارون واحداً ممن ألقت عليهم الكتائب “الحرم” وأخرجتهم من لبنانيتهم ومن مسيحيتهم ومن أهليتهم وحقوقهم المدنية وجعلتهم كمجرمي الحرب وأصحاب السوابق؟!
لشد ما تختلف آراء اللبنانيين حول الرئيس سليمان فرنجية، فما حفل به عهده خطير بحيث لا بد أن يراه البعض مصدر الشرور جميعاً في حين يراه البعض الآخر ضحية الأشرار الذين نسجوا المؤامرة على لبنان والفلسطينيين وسائر العرب.
وبديهي أن تتضارب الآراء حول العماد ميشال عون، فدورالجيش في لبنان خاصة موضع جدل حاد بدا قبل الرئيس الراحل فؤاد شهاب وامتد خلاله وحتى بعد رحيله، فاعتبره البعض الباني الأول والأوحد للدولة الحديثة، ورأى فيه البعض الآخر الدكتاتور – عدو الحريات – عميل عبد الناصر وهادم النظام الديموقراطي البرلماني الخ…
حتى العميد ريمون اده موضع خلاف بين اللبنانيين، مع كون أكثريتهم “تعطف” عليه (ربما لغيابه)، وترحب بعودته لأنه يعطي نكهة مميزة للحياة السياسية،
لكن أن يجبر اللبنانيون علىشطب هؤلاء سلفاً، ومعهم من حيث المبدأ وحتى إشعار آخر، نائب طبيعي كمخايل الضاهر، من خانة المرشحين،
… وأن يهدد اللبنانيون بحرب لا تبقي ولاتذر إذا هم فكروا بريمون اده رئيساً، وهو الذي لم يحمل في أي يوم سلاحاً،
… وأن يتهم المسيحيون في مسيحيتهم إذا هم تعاطفوا مع زعيم المرده (فرنجية) أو مع قائد جيش النظام والطائفة (عون) أو مع نجل اميل اده ووارث تراثه المعادي “للآتين من الصحراء” وأحد بناة “الحلف الثلاثي” وزعيم حزب “الكتلة الوطنية” التي لم تفتح بابها يوماً لكاثوليكي (حتى لا نقول لأرثوذكسي ناهيك بالمسلم)،
إن مثل هذه التصرفات الرعناء إنما تعكس إصرار الانقلاب الكتائبي على إدامة عصره، ولو جزئياً، وإدامة إخضاع البلاد لأغراضه وأهوائه وإدامة إغراقها في مستنقع الحرب الأهلية.
إنه يستعدي المسلمين جميعاً على المسيحيين،
ثم إنه يستعدي بعض المسيحيين على بعضهم الآخر،
ويحاول، وهو المعزول والمتهم في وطنيته بسبب علاقته مع إسرائيل، أن يعزل كل القوى المخالفة لنهجه، وأن يبتزها لتقبل به شريكاً في العهد المقبل من خلال تهديده بتعطيل انتخابات الرئاسة.
“تكون لي الرئاسة، أو تكون لي السياسة في العهد الجديد، فمن ارتضاها حكم معي وباسمي، وإلا فلا رئاسة ولا سياسة ولا حكم ولا دولة ولا مرقد عنزة لأحد من الحالمين بلبنان الجديد”!!
الانقلاب يشن، إذن، حربه الوقائية،
وهو اليوم يتهم ريمون اده بأنه عميل لدمشق،
وقد يرى غداً في مخايل الضاهر عميلاً لحمص،
… وفي ميشال اده عميلاً لحلب،
… وفي ميشال الخوري عميلاً لدير الزور،
أما رينيه معوض فهو عميل مزدوج للاذقية وجبل الدروز!
الطريف إن لا أمين الجميل ولا كتائبه ولا “القوات اللبنانية” تتهم أحداً بالعمالة، مثلاً، للولايات المتحدة الأميركية أو لإسرائيل،
ثم إن الجميل والقياديين في”القوات” والكتائب يتزاحمون على أبواب مصر مبارك وعراق صدام حسين ومنظمة ياسر عرفات!
أي إن العروبة المصرية – العراقية – الفلسطينية شرف والعروبة السورية جناية في مستوى الخيانة العظمى!!
ماذا يعني هذا كله؟!
يعني إن حكم الانقلاب الكتائبي سيمنع، طالما استمر، أية مصالحة وطنية في البلاد،
وهو يحاول أن يفرض على البلاد معادلة بائسة قوامها: إما أنا وإما حكم عاجز وتافه يترك لي زمام الأمور في البلاد،
ويعني إن اللبنانيين مضطرون إلى إنجاز مهمة تاريخية مزدوجة: الأولى إنهاء عصرالانقلاب الكتائبي، والثانية استيلاد عهد جديد، بكل معنى الكلمة.
فأول شروط إنهاء الحرب أن يستبعد المحاربون الذين لا يحظون، الآن، وبرغم سلاح الإرهاب وبرغم الأموال الطائلة التي يملكون، بأي تأييد شعبي، وبأي قدر من الاحترام لا داخل لبنان ولا خارجه.
والذين يحاولون أن يفرضوا على اللبنانيين، في انتخابات الرئاسة، منطق الحرب الأهلية، إنما يريدون لهذه الحرب أن تستمر حتى لا يبقى على أرض لبنان لبناني واحد…
… وعلى الموارنة، قبل غيرهم الآن، أن يعلنوا خروجهم من الحرب الأهلية، بعدما أعلنت بقية الطوائف – طائعة أو مرغمة – خروجها من هذه المحرقة!
بل إن على الموارنة أن يخرجوا منها مرتين: مرة بترك الانقلاب الكتائبي لمصيره الأسود، ومرة أخرى بإثبات حدارتهم في حكم لبنان واللبنانيين عبر تقديم المرشح القادر على إعادة الاعتبار إلى كل القيم التي أسقطت واغتيلت وديست في وحول الحرب الأهلية.
وبين تلك الاعتبارات التي اهتزت فكادت تسقط: جدارة الموارنة بالرئاسة.
وحرام أن يظلم اللبنانيون جميعاً، وبينهم الموارنة، ثلاث مرات لسبب واحد:
لقد ابتلوا بالحكم الكتائبي الذي دمر ما تبقى من الدولة،
وابتلوا بالميليشيات المسلحة التي تكاد الآن تدمر ما تبقى من المجتمع.
ثم إنهم هانوا وهانت البلاد عليهم حتى سمحوا بهذه المهزلة المزدوجة: أن يمنع أو يعطل أو يعرقل ترشيح المؤهلين لأن يكونوا في موقع المسؤولية، وأن يفتح الباب للمين ما كان لكي يرشح نفسه للمنصب الخطير!!
والأمران يوصلان إلى النتيجة ذاتها وهي: إبقاؤنا في ظل عصر الانقلاب الكتائبي، أي في أتون الحرب الأهلية!
ومؤسف إن هذا العصر الكتائبي قد ارتبط عضوياً بالعصر الإسرائيلي في لبنان، فصار سقوطه شرطاً لافتراض أن العصر الآخر، عصر الاحتلال واختلال الصيغة واندثار الحياة السياسية، قد شارف على الغروب!
لقد انتهت ولاية الرئيس الذي فرضته الدبابة الإسرائيلية،
فلنحاول أن نختار رئيساً يخرج هذه الدبابة وما حملته إلى لبنان من ويلات،
أما ما تبقى من مشكلات ومسائل ومعضلات فما أسهل أن نجد لها، على تعقيدها، الحلول… في لبنان طبيعي!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان