أيقظ وجدي الملاط اللبنانيين، أمس، من سهومهم، وأعطاهم جرعة من الأمل: إذاً ففي البلاد بعد مَن يجرؤ ومَن يقدر على ان يقول »لا« للغلط!
كانوا قد استكانوا وفوّضوا أمرهم الى الله راجين ان ينتقم لهم ما دام تعذّر عليهم ايقاف جاروفة الغلط التي اجتاحت مختلف مؤسساتهم، والتي أفقدتهم الكثير من ايمانهم بقدرتهم على حماية حقوقهم ومستقبلهم.
ساد ليل القنوط، وتهاوت الآمال كالشُهُب المذنّبة، ما ان تضيء لحظة حتى تنطفئ ابداً، واهتزت الثقة بالجميع، حاكمين ومحمومين، واستقر في اليقين ان لا احد يملك من امره شيئاً، او ان ما كُتب قد كُتب ولا خلاص.
لكن كلمة »لا« واحدة أطلقها وجدي الملاط في قلب الليل جدّدت الامل بإمكان وقف تلك الجاروفة، وإلزام المخطئين بمراجعة حساباتهم وإسقاط فرضية ان ما يقررونه يكون ولا رادّ لإرادتهم ولا مَن يحاسبون!
على ان التقدير الصادق لموقف وجدي الملاط لم يمنع شعور الناس بشيء من الغصة إذ وضع مباشرة أمامهم السؤال عن مصير المؤسسة التي ائتُمن عليها الملاط مع نفر من خيرة قضاة لبنان.
فليس مكسباً عظيماً للبنانيين ان يضيفوا اسم وجدي الملاط الى سجل »أبطالهم«، بينما يسقط لهم شهيد عظيم هو المجلس الدستوري.
كان الامل ان يحمي الملاط، بموقفه، المجلس الدستوري، لا ان يستنقذ نفسه هاتفاً باللبنانيين: هذه مؤسستكم تعود إليكم فأنقذوها!
لقد فرح اللبنانيون بقيام المجلس الدستوري لأنهم افترضوا ان قد غدت لهم مرجعية تحميهم من أخطاء حكامهم، مقصودة كانت او غير مقصودة.
وتأكد فرحهم حين اختير اعضاء هذا المجلس من بين نخبة قضاتهم وقانونييهم، فقالوا: لمرة، اعطيت القوس باريها، فلنأمل خيراً..
وحين جرى الامتحان الأول للمجلس الدستوري عبر قانون الانتخاب الأشوه الذي أحيل إليه مطلع الصيف الماضي، تساهل الناس مع النتيجة التي جاءت أقرب الى التسوية منها إلى الحكم القضائي القاطع برفض الخطأ حيثما وقع ومهما كانت نسبته.
أما حين قُدمت الطعون حول الأخطاء أو الخطايا التي رافقت الانتخابات النيابية فقد التفت اللبنانيون جميعاً إلى المجلس الدستوري بعظيم الأمل في أن يقوم بدوره الحاسم: يقول »لا« حيث يجب، ويقول »نعم« للصح.. ويكون قراره حد المفصلين، إذ ينهي النقاش لأن »المجلس قال كلمته«.
ومع تسليم اللبنانيين بأن الانتخابات النيابية الأخيرة كانت أقرب الى السلامة من سابقتها، بدليل المشاركة الكثيفة فيها، فهم كانوا يعرفون يقيناً أنها حفلت بالعديد من الأخطاء، بعضها من طبيعة قانونية وبعضها الآخر من طبيعة بحت حسابية.
ولو أجري في أي وقت استفتاء أو استطلاع رأي بين الناس العاديين لسلّموا مَن هم الذين في المقاعد النيابية بغير وجه حق، ومن هم الذين »فُوِّزوا« وما كانوا بفائزين!
على هذا فقد علق الناس، بثقة مطلقة، آمالهم على المجلس الدستوري لأنهم مسلِّمون حقيقة به كمرجعية أخيرة.
من هنا، ومع التقدير مرة أخرى، لكلمة »لا« التي أطلقها وجدي الملاط في وجه حماة الخطأ والخطيئة، فلقد كانوا يفضلون لو أنه استخدم موقفه الشجاع لحماية المجلس ككل ومهمته النبيلة التي يُخشى بعد الآن ألا يقوم بها أحد غيره ولسان حاله يقول: إذا كان وجدي الملاط بذاته قد عجز عن مقاومة الضغوط والمداخلات وردها وكشف مصادرها حمايةً لهذه المرجعية، فمَن تراه يستطيع؟!
والخوف أن يرتد قرار وجدي الملاط سلباً على زملائه في المجلس، فيتساهلون مع الخطأ بحجة حماية المجلس من الانفراط، أو من أن تدخله ثعابين السياسة فتدمّره تدميراً.
أما وقد سجل وجدي الملاط موقف الاعتراض، مستنهضاً الناس جميعا لحماية المؤسسة الوليدة والمثقلة بآمال الناس، فإن من حقنا عليه جميعاً ان يتسلح بهذا الالتفاف الشعبي الواسع حول موقفه، والذي قد يعصمه ويحمي المجلس من الضغوط، ويعود لأداء واجبه في خدمة الحق والحقيقة.
لقد انشئ المجلس لمقاومة أرباب الخطأ والذين يتوسلون الخطيئة طريقاً الى السلطة والنفوذ والمال الحرام.
ويبقى واجب وجدي الملاط ان يحمي المجلس ولو بنفسه لا ان يخرج ولسان حاله مع المجلس يقول: اذهب أنت وربك فقاتلا.
لقد كان وجدي الملاط يعرف كل شيء عن كل الناس، حكاماً ومحكومين، ولا يستطيع الآن ان يقول: لقد فوجئت!
وإذا كانت الاستقالة صيحة اعتراض من اجل ان يستكمل المجلس دوره ويؤدي مهمته بالامانة المفترضة فيه، فلقد فعلت فعلها، وعلى وجدي الملاط ان يعود الى زملائه وقد ازدادوا قوة بموقفه فينجز معهم ما هو مطلوب منه ومفروض عليه كواجب وطني.
وإلا فإن قرار الملاط سيعطب مع المجلس الدستوري العملية الانتخابية برمتها ومعها المجلس النيابي الذي انبثق عنها، فيكون قد »طعن« بالمجلس وبالناخبين جميعاً، وهذا فيه من الظلم اكثر مما فيه من العدل.
قرار آخر شجاع مطلوب من وجدي الملاط: ان يحمي، برجوعه عن الاستقالة الاعتراضية، المجلس الدستوري كمرجعية لا بديل منها في حياتنا السياسية المفرغة من مضمونها!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان