مقدّر على لبنان، وإعلامه خاصة، أن يعيش لفترة في أفياء »التفاهم« أمنيù ومن ثم اقتصاديù، مع تجنّب الحديث المحرّم في السياسة!
وإذا كان شق الترتيب الأمني البحت قد استهلك، حتى الآن، الأسابيع الثلاثة الأولى من »وقف النار«، فإن أمر »المجموعة الاستشارية« لاحتياجات الإعمار لن تشهد النور في المدى المنظور، وربما ليس قبل إقرار الصيغة النهائية »للسلام« الموعود (؟) والذي يقع في منزلة بين منزلتي الوهم وأحلام اليقظة!
ومع التقدير لجهد المعنيين باستيلاد أعجوبة »اللجنة« لمراقبة وقف إطلاق النار، وتحديد الخارق والمخروق وما بينهما، فإن »البشائر« جميعù تشير إلى أن هذه اللجنة قد تكون شكلية، والغرض الأميركي الإسرائيلي منها بحت انتخابي يتحقق بتأمين الفوز الباهر لشمعون بيريز، وإما أن تكون لها مهمة جدية ويستحيل من ثم قيامها في ظل تعثر الاتفاق على أسس »السلام« العادل والشامل والدائم والمعلق كأمنية!
يقول »التفاهم« عن »المجموعة الاستشارية«، بالنص:
»كما ستنظم الولايات المتحدة أيضù مجموعة استشارية تتألف من فرنسا، الاتحاد الأوروبي وروسيا، وأطراف أخرى مهتمة بهدف المساعدة على تلبية احتياجات الإعمار في لبنان..«.
إذن فلهذه المجموعة »منظم« هو الأميركي، ودوره في »التفاهم« مفهوم جدù..
فاما فرنسا فقد بادرت بمساعدة عاجلة، كما أكدت بلسان رئيسها وحكومتها وفي غير مناسبة، أنها ستقدم ما تستطيع للبنان… وهي بالمنطق تفضل أن تقدمه مباشرة، ومن ضمن أو مع الاتحاد الأوروبي، ولا ترحب كثيرù بأن »ينظم« »المنظم« مساهمتها، أو المساهمة الأوروبية، فيكون الدفع عليها في حين يجني »المنظّم« الأميركي المكاسب السياسية على حساب غيره.
واما الاتحاد الاوروبي فقراره، حول لبنان (ما قبل الاجتياح) وحجم المساعدة ووجوه صرفها، كل ذلك محدد ومبتوت فيه في مؤتمر برشلونة، كما من خلال الحوار المباشر بين دوله وبين الحكومة اللبنانية،
وبديهي ان يفضل الاتحاد الاوروبي التعاطي مباشرة مع لبنان من ان يجيء الى بيروت عبر البوابة الاميركية وبتأشيرة اسرائيلية.
اما روسيا التي اضيف اسمها بالطبشورة وكجائزة ترضية هزيلة عن تغييب دورها السياسي، فاوضاعها الاقتصادية فاضحة الانهيار بحيث يمكن سلفù توقع حجم »مشاركتها« في اعادة اعمار لبنان، اللهم الا اذا كان المقصود اشراك بعض شركاتها في صفقات المقاولات اللاحقة.
يبقى العرب، وعرب النفط تحديدù، وبالذات السعودية ودولة الامارات وربما الكويت وقطر، وقد اشير اليهم في التفاهم بتعبير مبهم (ومهين؟) نصه: »واطراف اخرى مهتمة…«.
ان »المنظم« الاميركي هو صاحب القرار فعلاً مع »هذه الاطراف«، حتى في ما يتصل بوجوه انفاق موازنات حكوماتها في داخل اقطارها،
لكن هذا »المنظم« قد استنزف هذه »الاطراف« عشية ثم خلال ثم بعد »عاصفة الصحراء« بحيث لجأ اغناها واعظمها دخلاً (السعودية) الى الاستدانة والى جدولة ديون الدول والشركات بمن في ذلك شركات المقاولات،
فمن اين اذن، ستأتي هذه المجموعة الاستشارية بالمال اللازم لاعادة اعمار لبنان، باحتياجاته التي قدرها رئيس حكومته ببضعة مليارات من الدولارات؟!
ان مسار المناقشات في »لجنة مراقبة وقف اطلاق النار« لا يطمئن اللبنانيين كثيرù،
فاذا ما تجاوزنا احتمال استثمارها لصالح بيريز في انتخاباته فان اصرار الاميركيين على جعل مدة ترؤسهم لها ستة اشهر يدل انهم يريدونها ورقة انتخابية في انتخاباتهم الرئاسية هم ايضù، ثم بعد ذلك فلتذهب إلى »حيث ألقت رحلها ام قشعم«… الفرنسية!
اما دورها، في الفهم الاسرائيلي، فهو ان تكون حارسù اضافيù لحدودها، او كتيبة استطلاع او سرية من المخبرين مهمتها ان تقبض على مقاتلي »حزب ا”« وسائر الفصائل المقاومة متلبسين بجرم الاعتداء على »مدنييها« وتقديمهم إلى المحكمة الدولية لمكافحة الارهاب!
لقد استبق شمعون بيريز ولادة المجموعة الاستشارية بالاعلان عن استعداده للمساهمة في اعادة اعمار ما هدمته طائراته ومدفعيته في الجنوب، معرضا اللبنانيين لإهانة اخرى، باحتقار عقولهم وتسخيرهم لتحقيق ما عجز اجتياحه عن تحقيقه، ولإشغالهم بأنفسهم وانقسامهم وانفضاضهم من حول المقاومة او تخليهم عنها،
* * *
إلى ماذا نخلص من هذا كله؟!
إلى ان على اللبنانيين ألا يغرقوا في الاوهام، ولا ينتظروا معجزات لن تقع، ومليارات لن تأتي أبداً،
إن عليهم، مرة اخرى، ان يبنوا بلادهم وضمن ظروفهم الصعبة بإمكاناتهم الذاتية مع القليل القليل من المساعدات العربية، اذا ما جاءت…
هل من الضروري التذكير ان الرئيس الاميركي بيل كلينتون الذي أراد ان ينفح الرئيس الياس الهراوي مليون دولار كمساعدة انسانية، هو هو من كان نفح شمعون بيريز عشية اجتياحه لبنان أحدث التجهيزات التي انتجتها بلاده لكشف المتفجرات وللتصدي للصواريخ، مع مئة مليون دولار نقداً، تضاف الى المليارات التي يأخذها بانتظام والتي توفر له امكان المغامرة باجتياح مكلف جدا كالذي نفذه جيشه ضد لبنان؟!
إن »المنظم« الاميركي لن يكون أكرم مع لبنان بأكثر مما كان مع الذين ذهبوا الى حديقة الورد في البيت الابيض ووقعوا على صكوك تسترهن مستقل ابنائهم تحت الاحتلال الاسرائيلي،
وأن نعيش فقراء أفضل بكثير من ان ندفع من دمائنا ومن اقتصادنا (ومن كرامتنا) ثمن سلام منظم جداً بحيث لا تمكن الحياة في ظله!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان