غاب توأم الروح، وصديق العمر لأكثر من نصف قرن. غاب الدكتور إبراهيم بيضون، المؤرخ الريادي الموضوعي، المفكر المجدد، المتحمّس دائماً للعمل الوطني والإنساني.
غاب رفيق دربنا في «مؤسسة عامل»، المشارك في التأسيس، وأمينها العام الذي أحاطها دائماً بعنايته، فكان واحداً من أبرز الحريصين على مسيرتها والأوفياء لاستمرارها وتطوّرها.
أول لقاء أضاء به إبراهيم بيضون صداقتنا، كان في عام 1970، كنت حينها أول أمين عام لـ «الاتحاد العام للطلبة اللبنانيين» في فرنسا. وكنا في مؤتمر للاتحاد عُقد في غرينوبل في فرنسا. ذلك هو اللقاء الذي بنينا عليه صداقة متينة لم تهزها صروف الدهر ومسرّاته، ولا بُعد المسافات وقربها. منذ ذلك اللقاء والعلاقة بيننا مستمرة، تتطور وتقوى وتتعمق مع الزمن.
وكانت المحطة الثانية، عندما فكرنا معاً في تأسيس «عامل»، وقد التقينا في أحد فنادق البقاع. لم يكن الكلام في الموضوع مجرد فكرة عابرة، بل ترسخت وتطورت، فكان إبراهيم بيضون شريكنا في التأسيس، ثم شريكنا في تطوير «عامل»، واحتضانها، وضخ الأفكار والاقتراحات في شأن انطلاقها وثباتها. نبث معاً اقتراحات التوسع في مهماتها، وترسيخ نهجها الاجتماعي والإنساني، والقيام بدورها كرافعة لمجتمع ديموقراطي، تُحفظ فيه كرامة الإنسان وحقوقه، وحاضنة لإرهاصات التقدم والتغيير.
المؤرخ الذي بنى شخصيته الكتابية على أساس التغيير والتجديد عبر طرحه المزيد من أفكار التجديد، في المؤسسة والمجتمع والدولة.
كان إبراهيم بيضون أحد أركان المثلث الذي كان يكتمل مع كبيرنا الأستاذ طلال سلمان، نتداول معاً شؤون وشجون المؤسسة والمجتمع والوطن، وصولاً إلى آليات الدفاع عن حقوق المغلوب على أمرهم من المواطنين، ومساهمة «عامل» في كل ذلك. ومن الصداقات القريبة المشتركة أيضاً صداقتنا المشتركة مع علي عبود، الذي كنا نلتقيه معاً في الخيام، فكان خير جليس، يدخل الفرح والأنس إلى النفوس ويغسل القلوب من تعب الأيام، وكذلك كانت الجلسات المشتركة، في الحلقات الضيقة، مع الدكتور ألبير جوخدار والدكتور فاروق بزي.
لم يكن صديقنا الغائب واحداً من أبرز المؤرخين العرب فقط، إنما كان أيضاً أديباً وشاعراً، بل كان يكتب التاريخ أحياناً مطعّماً بالأدب، أو مغلفاً به، وكثيراً ما كان سرده موسوماً بالجاذبية. وإذا كان قد أصدر أكثر من 20 مؤلفاً (عدا الترجمات) تركّز على التاريخ الإسلامي، فهو كان منذ صغره محاطاً بفضاء أدبي، كما كان يحدثني. فوالده المتمرد المساهم في انتفاضة التبغ في ذلك الزمن، كان صاحب فكر تجديدي، وله صداقات مع عدد من الشعراء والأدباء الذين يزورونه بشكل دائم، فيجالسهم معه الابن المنفتح على الأفكار الوطنية والعروبية والتقدمية. وهذا ما جعله أكثر ميلاً إلى قراءة الشعر والرواية أكثر من سواها، ثم لم يبقَ عند حدود الأدب العاملي واللبناني، إنما ذكر لي عدداً كبيراً من الشعراء والروائيين العرب الذين كان شغوفاً بقراءة مؤلفاتهم، من مصر وسوريا والعراق، إضافة إلى الكبار من كتّاب العالم.
لكن عاشق الأدب غيّر البوصلة مع بدء دراسته الجامعية، فاختار دراسة التاريخ، وإن بقي الأدب يغريه، ولم يبرحه يوماً، واستمر يفكر في الأدب، في خضم شغله على التاريخ، وفي هذا الإطار أتى كتابه «الأمراء الأمويون الشعراء في الأندلس: دراسة في أدب السلطة».
لم يكتفِ بمتعة الأدب ولا بالتاريخ دراسة وتدريساً في أكثر من جامعة، أبرزها الجامعة اللبنانية التي ترأّس قسم التاريخ فيها، بل خاض غمار المقالة الصحافية، ولا سيما في جريدة «السفير»، تبعاً لعلاقته المتينة بصاحبها.
وإلى ذلك، قدم أكثر من ستين بحثاً، جلها في التاريخ، ألقى جزءاً كبيراً منها في مؤتمرات أقيمت في دول عربية مختلفة، ما جعله معروفاً لدى المؤرخين العرب، ليحظى بعد ذلك بالتكريم، فيحوز وسام «المؤرخ العربي» من اتحاد المؤرخين العرب، والجائزة الأولى في «مهرجان الإمام علي» في إيران، ودرع المركز الإسلامي الثقافي برعاية العلامة السيد محمد حسين فضل الله الذي تفهّم أفكاره التجديدية، كما قدّر أبحاثه العلّامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
كان كتابه «ثورة الحسين حدثاً وإشكاليات» قد شكّل صدمة لقارئي مجالس العزاء الذين لم يتقبّلوه، إلا بعد مزيد من الكتابات الأخرى التي قدمها بشكل علمي لا يقاوَم حول شخصية الحسين. فهو، أساساً، يخوض غمار كتابة التاريخ السياسي للإسلام، باعتماد الأسلوب العلمي، بعيداً من الكتابات العاطفية، وما تسبّبه من إشكالات، معتمداً الحياد، ومنقاداً لقناعاته كباحث موضوعي يرتكز إلى العلم أولاً وآخراً. ومع أنه كتب في مواضيع شائكة وحسّاسة في عصرنا الحالي، إلا أنه كسب احترام الجميع وتقديرهم.
لم يدخل إبراهيم بيضون في أي حزب، كما باقي أركان المثلث الذي سبق ذكره، إنما نشط في مؤسسة ثقافية كانت تعني له الكثير، هي «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، حين كان نائباً لرئيسه حبيب صادق. ونشط في «مؤسسة عامل»، مسهماً بأفكاره المهمة ومقترحاته الوجيهة، متفاعلاً معنا في الأنشطة، مستقبلاً معنا وفود الداعمين لنا من العالم، وأستاذاً في تحديد الرؤى والمفاهيم ونقاش أطر التجديد في الجمعيات والمؤسسات الإنسانية.
كانت كتابات إبراهيم بيضون منارة في التاريخ والأدب. لذا، فإن خسارته كبيرة لنا ولأهل العلم، خسارة للبنان، و«مؤسسة عامل»، ولأصدقائه الكثر، وقد كنا عائلة واحدة وسوف نبقى، ويبقى في ذاكرتنا وعقلنا ورفيق حياتنا اليومية، حاضراً بيننا، بصفاته ودوره وإنجازاته ومسيرته الرائدة، نهتدي بفكره ورؤاه إلى أن نكمل المشوار.
* رئيس «مؤسسة عامل الدولية»