كانت تقع في حي جاردن سيتي على طريقي الموصل إلى مكاني المفضل في حدائق قصر النيل. أتوقف عندها في ذهابي لأقرأ ما لم أكن انتهيت منه في اليوم السابق وأتوقف عند العودة عسى أن تكون وصلت الدفعة الجديدة من الدوريات، أصعد مع ما اخترت منها إلى الطابق الثاني حيث مكتبة الموسيقى أقضي فيها وقتا نوعيا قبل أن أعود إلى بيتي. أتحدث هنا عن مكتبة مركز الاستعلامات الأمريكي.
***
ذات يوم من أيام الصيف الفاصل بين نهاية عام دراسي وبداية عام آخر كنت أجلس في ركني المعتاد بالمكتبة عندما أقبل على ناحيتي صديق وهو قريب أيضا ويعمل بالمكتبة واستأذن في الجلوس إلى جانبي. همس قرب أذني بما معناه أن المستر ليتش مدير المكتبة يريد الاجتماع بي ليعرض عليَ العمل في المكتبة نصف وقت كما يعمل المتدربون. علمت أيضا أنه كان يتابعني وما أقرأ والتزامي الحضور بانتظام. قال صديقي إنه مكلف بمهمة إقناعي بالفوائد التي يمكن أن تعود لي إذا قبلت العرض. وبالفعل أدى صديقي مهمته بمقدرة، خاصة وأنه يعرف أن المدير لن يمانع في أن يترك لي تحديد مواعيد عملي بما يناسب ولا يتعارض مع جدول محاضرات الجامعة. شعرت يومها أنني أمام عرض يصعب أن أرفضه ***
عملت في المكتبة لأكثر من عامين مع أشخاص تعلمت معهم ومنهم أن أحب وأعاشر بدون اندفاع، أن أتعلم وأعلِم دون تفضل أو تكبر، أن أتوخي الصراحة في تفاعلي الوظيفي كما الشخصي دون حرج أو تردد، أن أسأل وأسأل قبل أن أقترح جديدا أو أعدُل في قديم، أن أعمل بكل إيمان فللعمل طقوس يجب أن تراعى ولمكانه في النفس قدسية كما للمعابد.
***
تفتح المكتبة أبوابها للجمهور في الثامنة ولنا في السابعة. نراه ويرانا عند وصولنا فباب مكتبه دائما مفتوح. يمر علينا بين الحين والآخر يعرض المساعدة والمشورة وليطمئن على جودة المنتج وعلى صحتنا ومعنوياتنا ويسألنا الرأي والاقتراحات في سير العمل، ولا يتردد في أن يتوقف أمام زميل من زملائه ويطلب منه إدخال تعديل على ربطة العنق وهي إجبارية، أو في أن يتوقف أمام زائر أو زائرة يسأله أو يسألها عن مشكلات أو صعوبات في التعامل مع الكتب والفهارس والعاملين. أتحدث عن المستر ليتش مدير المكتبة وعن أول درس مكثف في الإدارة ولم أتجاوز العشرين من عمري.
***
قال عنه الزميل الضارب على الآلة الكاتبة أنه يمر عليه مرتين في اليوم ليراجع معه عدد الكلمات التي “رقنها” خلال فترة بعينها ليقارنه بالرقم الذي حققه يوم تقدم لوظيفة راقن على الآلة الكاتبة. عقوبة التقصير أن يتخلف عن موعد المغادرة حتى يعوض ما فقدته المكتبة من المنتج المقرر. سمعني أهمس بكلمة “وحشية”! في شكل استفسار فقال لا تتسرع في الحكم. “انتظر وسترى عجبا”.
***
مرت الشهور وانتهيت من امتحانات البكالوريوس وعندما ظهرت النتائج أقام المدير لي حفلا خلال ربع الساعة المخصصة للراحة، وفي نهايته وأمام الزملاء عرض أن يحصل لي على منحة دراسية للحصول على شهادة الدكتوراه في علوم التوثيق والمكتبات. شكرته واعتذرت فرغبتي كانت التقدم لامتحان الملحقين الدبلوماسيين وفي الوقت نفسه التقدم لجامعة كولومبيا للحصول على منحة تغطي مصروفات الدراسة العليا في العلوم السياسية. احترم الرجل رغبتي ورغبة مماثلة لزميلي الضارب على الآلة الكاتبة للحصول على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. هذا الزميل كان فلتة في الذكاء والصداقة وحسن التدبير مثله مثل كل بورسعيدي قابلته في حياتي وآخرهم الناشط جورج إسحق.
***
حكيت حكايتي مع المدير الأمريكي لما خلفته في شخصيتي من آثار أفادتني في أداء وظائفي في مواقع متعددة ومتباينة. أحكيها أيضا لأقارنها بتجربة أحمد الله على أنها لم تستمر طويلا. إذ استدعاني رئيس مباشر في إحدي البعثات التي عملت بها في أوائل سنين التحاقي بالخارجية، قال ما معناه أنه يراقب أدائي في العمل منذ وصولي إلى هذه البعثة وقد “لاحظنا أنك تقضي في السفارة وقتا طويلا وتنتج أكثر مما يجب وسيأتي يوم تخطئ خطأ جسيما بسبب كثرة إنتاجك فتعاقب”.
***
عشت سنوات بعد مغادرتي المكتبة أقارن بين أسلوب المدير الأمريكي في التعامل مع مرءوسيه وأساليب رؤسائي المباشرين، مصريين كانوا أم غير مصريين. أعترف أنني وقد صرت مرارا رئيسا أو صار لي مرءوسين لم أفلح تماما في أن أكون نسخة من مديري الأول وإن نجحت في أن أحتفظ بروحه وأسلوبه مصدرا لوحي في الإدارة لازمني ولم يتخل عني.
***
من النساء اللائي عملن معي في المكتبة الأمريكية أذكر ثلاثة خلفن آثارا في حياتي بشكل أو بآخر. أذكر العبقرية “ف” التي كانت مسئولة عن قسم المراجع في المكتبة واعتبرت نفسها مسئولة أيضا عن نشاطي الأكاديمي. ساعدتني خلال أوقات فراغها وفراغي لأقرأ أكثر في علوم العلاقات الدولية. وصلت سمعتها العلمية والشخصية إلى خارج البلاد. لذلك لم أتفاجأ، وكنت في الهند، عندما وصلني خبر سفرها من مصر لتلتحق بمجموعة العمل الملحقة بأنشطة عالم الإسلاميات والمستشرق الأشهر سير هاميلتون الكسندر روسكين جيب في جامعة هارفارد.
***
أذكر أيضا “ب” السكرتيرة التنفيذية لمدير المكتبة. كانت أول سكرتيرة أتعرف عليها واستشف نوع وأعماق هذه العلاقة التي يجب أن تربط بين مدير وسكرتيرته. كثيرا ما شبهت هذه العلاقة بالعلاقة بين أم وابنها أو بين مربية وطفل تتعهد برعايته وإنضاجه وحمايته من “الأغيار”. كانت بمشيتها في صالات المكتبة، مشية الواثقة من مكانتها وفتنتها، تحمل رسالة أن الدنيا لا تعيش فقط بالكتب والمجلات العلمية، بل فيها ما يسر العين ويمتع النظر.
***
كان يشاركنا المبني قسم يهتم بشئون ثقافية مثل تبادل الأساتذة والطلبة وتتولى إدارته واحدة من أقدر وأذكي من عرفت من جنس المرأة. أدين لها بجهود طائلة ساهمت في تعريفي بمستلزمات التقدم للحصول على منحة وبخاصة في جامعات الدرجة الأولى. كنا نلتقي على فنجان القهوة الأمريكية في فرص أتاحتها مهلة الاستراحة اليومية ونشأت بيننا علاقة مودة واحترام كالتي تقوم بين طالب وأستاذ لا يكبره بكثير.
ذات يوم اتصلت تقترح لقاء مطولا. التقينا بعد مواعيد العمل. قالت إنها تساعد شابا تخرج حديثا جدا وبتفوق ويريد المشورة في الحصول على منحة من جامعة أمريكية. حصل على المنحة. يسأل أيضا وبخجل شديد إن كانت زميلتنا تستطيع ترشيح فتاة تقبل أن تسافر معه كزوجة قبل نهاية الصيف أي بعد شهر لا أكثر. طلبتني وآخرين لنساعدها. قالت إنها قابلت عندي إحدى قريباتي الطالبة بكلية الآداب. هل نكلمها؟. أجبت على الفور ألن نكون ظالمين لو شجعناها على القبول؟ لم تختلف إجابات الآخرين عن إجابتي.
نسيت الموضوع وتركت المكتبة. درت في الخارج دورة عمل ودراسة امتدت لأكثر من عشرين عاما. تصادف بعدها أن كنت أجلس مع زوجتي في بهو فندق في واشنطن أستعد لمداخلة ألقيها في مؤتمر أكاديمي عندما سمعت من ينادي. التفت ناحية النداء لأراها وكأن الزمن لم يخصم ولا “أيوتا” واحدة من عفويتها وجاذبيتها وخفة ظلها. نهضت لأحييها وأعرفها بزوجتي ولنتفق على لقاء آخر بعد انتهاء واجبات جئنا من أجلها.
***
سألتها عما تفعل بواشنطن. أجابت على سؤالي بحكاية طويلة ألخصها في كلمات أرجو أن تكون قليلة. الخريج الذي طلب منها أن تخطب له فتاة تسافر معه فورا إلى أمريكا جاء إليها بعد أن وصل عدد الفتيات اللواتي رفضن السفر مع طالب إلى أي مكان إلى أكثر من عشر فتيات. جلس أمامها في مقهى جروبي لا يعرف ماذا يقول غير التعبير عن اليأس. بدا أمامها مسكينا. نظرت طويلا في عينيه قبل أن تباغته بالسؤال: فشلنا.. لماذا لا تتزوجني؟. أجابها بدون تردد، أتقبلين الزواج من طالب لا يملك شيئا ولا حتى مستقبلا مضمونا؟ قالت له “نعم. كنت واثقة منذ أول لقاء بيننا أن مستقبلك في يدي”.
استطردت مضيفتي تقول “لن أطيل. تزوجنا وأنا أكبره بعشرة أعوام. استقلت من وظيفتي المرموقة وسافرنا إلى أمريكا ومعنا ابني. ألحقته بمدرسة وألحقت “عريسي” بالجامعة والتحقت أنا بوظيفة ممتازة. مرت سنوات، كبر ابني والتحق بالجامعة وتخرج زوجي من كلية الدراسات العليا وفتح مكتبا. خلال أعوام صار مليونيرا. تعددت علاقاته الغرامية. نسي ما فعلت لأجله. اجتمعت مع النساء اللائي أقام علاقات معهن ورفعنا جميعا قضية. حكيت للقاضي حكايتي كما حكيتها لك. وفي النهاية صدر الحكم بتعويضي بمبلغ يعادل نصف ثروته وينقلني إلى مصاف المليونيرات”.
***
ساد الصمت لدقائق تعود بعدها فتستطرد قائلة “هذه حكايتي ولن أفك أسرك قبل أن تحكي لي حكايتك منذ ودعناك ليلة سفرك إلى الهند”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق