أبدأ بأمي وأبي ليس لأنها عادة كل من يكتبون سيرهم ولكن لأنني عشت بالفعل أذكر لهما الفضل كلما دخل غريب إلى بيتي أو أجلسوني إلى جانب من يكبرني أو اجتمع قوم على مائدة طعام فلا أجلس قبل أن يكتمل جلوس الجميع. أذكر لهما الفضل حتى يومي هذا كلما اشتركت أو أشركوني في مناقشة فكاد صوتي يعلو درجة أو درجتين فوق درجة ما بعد الهمس، أو كلما كلفت نفسي أو كلفوني بنقل حرفي لرسالة. أشهد، بمبالغة بسيطة، أنني لم أتفاجأ بمعظم النصوص من كتاب السيدة ويست بعنوان الإتيكيت ونحن على وشك الالتحاق بالدبلوماسية المصرية.
***
أذكر بكل الخير والوفاء والتجربة أستاذا قدمني بكل الحب والتقدير إلى أشخاص من نوع أفلاطون وأرسطو وماكيافيللي وتوماس آكويناس وجان جاك روسو وتوماس هوبز. أثق أحيانا في أن أحدا غيره ما كان ليقوم بهذه المهمة النبيلة وحده مع شاب لم بتجاوز التاسعة عشرة من عمره. أشهد بأنه كان محاضرا قديرا يمتلك ناصية اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة نادرة ويمتلك خاصية احترت في توصيفها وقتذاك قبل أن يصيغوا لها كلمة رائعة وهي كاريزما. إنه محمد توفيق رمزي أستاذ الإدارة والنظرية السياسية وقتئذ في كلية تجارة جامعة القاهرة.
***
لن أعبر من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى قبل أن أوفي إمرأتين حقهما في طور أو آخر من أطوار تكويني. أشهد بأن لجدتي لأمي الفضل الكبير في غرس أساليب وفنون تجميع الأحباء والقريبين وإدارة شئونهم وأحوالهم برفق وعناية وتقاليد عليا. أظن، وبعض الظن حق، أنني تلقيت أول دروس الحب والتعاطف والثقة وأنا بين أقراني من أحفادها نتسابق على مكان في حضن اتسع لنا لساعات وحكايات لا تنتهي. هناك تعلمت معنى الحضن ووظائفه وبخاصة قدرته الفائقة على إذابة التوترات ونشر الوئام وتثبيت دعائم العاطفة. أشهد أيضا بأن لجدتي لأبي فضلا، وهذه لم أقابلها أو أتعرف عليها بالحضن أو باللمس أو بغيرهما إلا من خلال صورة فوتوغرافية لسيدة طويلة وعريضة بوجه شديد الصرامة وتمسك بيدها اليمني ببندقية تكاد تكون في طول قوامها وتعبر عن صلابة شخصيتها. عشت سنوات في حضن أمي لم أسألها يوما عن جدتي لأبي، ولم أسمع أبي يتحدث عنها إلا في أندر الموضوعات وأشدها تعقيدا وصعوبة. هذه الصورة تركت أثرا لم يزل ملتصقا بمنحى أو آخر من مناحي تفكيري وأظن أنه أدى دورا في بناء جانب في شخصية احتاجته لصنع توازن بين فيض العواطف وتعقيدات الواقع.
***
اثنان ساهما بقدر غير بسيط في شق مجرى حياتي أو في تمهيده وتحسينه. كنت في الثالثة من عمري عندما تقدم لخطبة شقيقتي مدرس جغرافيا عائد لتوه ومعه شهادة الدكتوراه من ليفربول. يروى أنه كان في زيارة أخيه الأكبر محمد بحي الدواوين عندما خرج إلى الشرفة ليرى أمامه في شرفة البيت المقابل فتاة جميلة انبهر بها وبقوامها فطلب من شقيقه مفاتحة والد الفتاة. أنني لا شك أكرر ما يردده الكبار عندما أزعم أنني أتذكر حفل العرس وقد جرى في بيتنا. كانت أمي في الثالثة والثلاثين والعريس في الثلاثين وكاتب هذه السطور في الثالثة أو الرابعة والعروس في الثامنة عشرة. يروى عن ليلة الخطبة أساطير إحداها تقول إن مدعوة من أهل الخاطب أبدت ملاحظة تقصد بها أن العروس بقوامها وجمالها تدفع الغرباء إلى الشك في حقيقة ما تنص عليه وثائق المدرسة السنية عن عمرها، فما كان من والدي إلا وأخرج منديله من جيب جاكتته وبلله بالماء وراح يمسح عن وجهها المساحيق ليثبت أنها ما تزال طفلة في السابعة عشرة لا أكثر.
بعد عودتهما من بغداد في مهمة تعليمية بالجامعة العراقية اختارا الإقامة في شارع الفلكي وقد أضافاني إلى عائلتهما الصغيرة لأقيم معهم بصفة متقطعة ولفترات طال بعضها سنوات وبخاصة سنوات دراستي بالجامعة. المهم أنني تلقيت دعما معنويا هائلا من هذا الأستاذ العالم والفنان ودفعات قوية من الطموح الأكاديمي والشخصي وشحنات كادت تكون يومية من القراءات في الأدب الإنجليزي والتراث الموسيقي الغربي. كانت تجربة فريدة مع شخص فريد في طباعه ومنظومة أخلاقه وعقيدته، أشهد له بأنه أضاف إلى خزائن أفكاري ومنظومة علاقاتي ومصادر تكويني تفاصيل عن رجولة من نوع فريد، نوع الرجولة غير الصاخبة.
كان ولا يزال أمرا لافتا أن تخلو تجربتي في الدبلوماسية من إشادات قوية أو متعددة بأشخاص معينين كان لهم الفضل في إثراء حياتي المهنية خلال تلك التجربة. ليس هنا في هذا الحيز المحدود المكان المناسب لشرح الظروف وبخاصة وقد غاب أكثر أبطالها، يكفي أن أعترف، بل وأشيد، بدور العلاقات الدافئة التي ربطت بيننا، أبطال الدفعة الواحدة، الذين ألقوا بأنفسهم في آتون مهمة صعبة وفي وقت ملتهب غير متوقعين وكلهم في مرحلة شباب مبكر يدا متعاطفة تشد أزرهم في ظروفهم الصعبة. لا شك أنه لولا شبكة العلاقات الدافئة والصادقة التي ربطت بيننا لما أمكن للكثيرين تجاوز أزماتهم الناتجة في أغلبها عن حرج المرحلة السياسية ونقص الثقة بين أكثر القدامى وبعض الجدد والحال الانتقالية التي كانت تمر بها مختلف مؤسسات الدولة. أوكد أن وجود أشخاص من نوع حسن رجب ونبيل العربي وأحمد ماهر وأحمد الزنط وسامي ثابت ومحسن بشر وإيهاب وهبة وفاضل وهيبة، ولو مع بعد المسافات بيننا، كان تعويضا مناسبا ومؤقتا عما فاتنا من تلقين وتهيئة وتدريب يليق بظروفنا وظروف المرحلة.
***
اختلف الوضع شيئا ما مع تجربة العمل في الصحافة. هنا أيضا اعتمدت على شبكة العلاقات الدافئة التي ضمت أبطالا من نوع فريد، منهم على سبيل المثال وليس الحصر، صلاح الدين حافظ ومحفوظ الأنصاري ومصطفى نبيل. ولكن اختلفت في أن هيكل كعادته الباحث دائما عن فرص، أتيحت له فرصة الاستفادة من طاقة مختزنة في شخصي من تجربة لم تكتمل في الدبلوماسية، وتجربة أخرى في البحث العلمي لم تكتمل، لم يدع هذه الفرصة تفلت مقتنعا بأننا نستطيع أن نستكمل معا بعض ما بدأ وبدأت.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق