اجتمعت أسباب انفعالي وتنوعت. كان آخر اجتماع لها قبل يومين في بيت ابنتي الأصغر خلال احتفالها بخطوبة ابنتها. دعيت بصفتي الجد وفي الوقت نفسه كبير العائلة، وكان هناك معظم الأحفاد وبعضهم اصطحب أبناءه وبناته. ذهب جانب من اهتمامي إلى حصر من لم يحضر من الأحفاد المغتربين. إنها وللحق لشجرة يانعة.
وبينما كنت أحصر الغياب تذكرت حكاية خطوبة أخرى جرت تفاصيلها قبل شهور قليلة وبطلها أكبر أحفادي الذي قرر أن يقيم مراسم خطوبته لحبيبته الأمريكية على سطح النيل في فلوكة. لم ينس الحفيد أن يطلب من قبطان الفلوكة تزويدها بجهازين، أحدهما لتصوير المناسبة والثاني لإذاعة موسيقى وأغاني عاطفية، ولم يفته أن يحدد التاريخ بليلة يتوسط سماءها القمر مكتملا.
***
مبدعات أيضا بنات هذا الجيل الجديد. قضيت الساعة التي قررت أن أشهد خلالها، أو بمعنى أدق، أكون شاهدا، على التزام الجميع بتقاليد المناسبة، قضيتها أسمع أغاني الخمسينيات. سألت عن الدافع وراء اختيار أغاني هذا العقد من القرن الماضي فجاءت الإجابة لتذهلني. إنه قرار صاحبة الحفل وهي بطلته أن يكون لكل جيل من أجيال المدعوين أغنياته المفضلة والأشهر. تبدأ الليلة بأغاني الخمسينيات والستينيات فالسبعينيات ويختتم الحفل عند منتصف الليل بأغاني ورقصات الجيل الأحدث، وهو جيل الخاطب والمخطوبة.
قضيت الساعة المخصصة للمدعوين من كبار السن، قضيتها مبتسما وعقلي في مكان آخر. أما المكان الذي هاجر إليه عقلي فكان صالات الرقص والاحتفال في كثير من السفارات الموجودة وقتذاك، خمسينيات القرن الماضي، في مدينة نيو دلهي عاصمة الهند. أذكر بكل الحب والهنا، وشقاوة هذا العمر، كيف قمنا أنا ومن اخترتها واختارتني لتكون شريكة العمر، وبمختلف أساليب وتقاليد تلك الأيام، كيف قمنا بالتعارف ثم التقارب بالرقص كما بغيره على أنغام هذه الأغاني، أغاني وموسيقى الخمسينيات. أذكر، مع ابتسامة ذات مغزى عميق، آخر المراحل بليلة جمعت فيها زملائي من شباب سفارتنا وتحركنا مجتمعين في اتجاه بيت السفير السوري ساعيا وراء يد ابنته.
***
سحبتني ذكرياتي التي حملتني في الزمان كما في المكان بعيدا، إلى ما يزيد عن سبعين سنة، لتعود بي إلى لحظة أخرى في بيت ابنتي وما تزال أغاني وموسيقى الخمسينيات من القرن الماضي يحملها الأثير عبر مكبرات صوت رحيمة وناعمة. أفقت من الذكريات على منظر أناس كثيرين احتشدوا في الصالون الذي راح يضيق بالوافدين من الصالونات الأخرى. جاءوا برجال غرباء أنا لا أعرفهم جلس بعضهم إلى جانبي. خفت صوت الموسيقى ليأتي صوت رجل في منتصف العمر أنيق الملابس والمظهر ينهض داعيا الجميع إلى الانتباه إلى ما سيقول. نطق بكلمات طيبة فحواها أن عائلة الشاب الجالس بجانب ابنتنا تتشرف بطلب الموافقة على خطبة ابنتنا لابنهم، وجاءت قراءة الجميع للفاتحة لتغني عن الرد على الطلب بموافقة معلنة وصريحة من المخطوبة وأهلها.
***
انتهت المراسم. رأيت الجمع يتحرك في غياب هدف، ومن موقعي ورغم الحركة الكثيفة وقعت عيناي على الخطيب والمخطوبة تمسك بيده وباليد الأخرى تحيي المهنئين من كلا الجنسين. لاحظت أن الأغاني والموسيقى انتقلت عقدا فصارت موجهة لأهل الستينيات وربما السبعينيات أيضا. اقتربت ابنتنا مع خطيبها لتحي الجالسين والجالسات في صفي. وصلا عندي. يغيب عن ذاكرتي كل ما حدث بالتفصيل باستثناء أصوات تدعوني لعدم الالتزام بقاعدة النهوض احتراما للمناسبة ومشاركة الخطيبين فرحتهما. أعرف بالتأكيد أنني لم أستجب لتلك الدعوات ووقفت في استقبالهما ولاحتضانهما. أظن أيضا أنني لم أنتظر أن يستكملا واجبهما نحو بقية الضيوف بل قيل لي بعدها إنني جلست قبل أن يتركا المكان ليستأنفا واجبات تحية الضيوف. قيل وقيل وقيل.
***
أهم ما قيل. قيل إنني بدوت أمام الخطيبين ومن خلفهما مهنئون ومهنئات كما لو كنت أمسح بعض ما علق بأهدابي من بقايا دموع خشيت أن تفضحني، فرحت أتسلل بأصابعي نحوها أمنعها من الانزلاق نحو خد أو آخر. قيل أيضا على لسان ضيفة وقفت خلف الخطيبين لحظة الاحتضان والمشاعر الجياشة؛ أن أصابعي المشاركة في الاحتضان راحت بدورها ترتعش.
نفيت أن يكون ما ردده ضيوف عن دموع أو أصابع ترتعش قد حدث بالفعل، ولم أكن أمينا في النفي، أو على الأقل كنت مترددا. ما لا يعرفه الكثيرون خارج دائرة أولادي وزوجي رحمها الله أنها أسرت إلى ابنتينا عن هذه الحال؛ حال أبيهما العاطفية وهو في الأربعينيات من عمره قبيل لحظات عقد قرانيهما أو بعدها مباشرة، هى الحال ذاتها الآن وهو على أبواب التسعينيات يدقها استئذانا ورضاء ثم ابتهاجا بخطوبة حفيدته.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

