سئل جورج أمادو، هل أنت مؤمن؟ قال: بماذا؟ قيل له: بهذا العالم؟ أجاب: لا أؤمن بشيء.. معه حق. هذا الإنسان لا بديل له أبداً. الآلهة بعيدة وليست حاضرة، أو لم تحضر أبداً، وقد لن تحضر..
علينا أن نؤمن بعدمية القيم وطوباوية الحياة. هذا هو الإنسان بكل توحشه وهذا هو التاريخ الذي كتبه القتلة. إننا جميعاً من سلالات الخنادق. مأخوذون بالبطولة، تمجيداً وتمثيلاً وتأليهاً.. حروف التاريخ ليست من حبر، بل من خلايا أجساد ودماء.
هذا معروف ومتداول، باستثناء الذين يكيلون الوجود بمكيال سماوي، إلهي، ديني، ما فوقي، خرافي، أسطوري. هناك بدائل عن الآلهة.. بشر بقامات قادة وعظماء متوجين بأكاليل النصر، ومطعونين من الخلف من أبناء سلالتهم.
لا صراط مستقيماً، قديماً وحديثاً. الانتظام كذبة: الحب لا ينجب أخلاقاً، الغريزة (ما أفدحها) تُنتج كوارث.
لا يعقل أن يكون الإنسان المعاصر قد تغيَّر وبات محصَّنا بجودة العمل وخفوت الطمع وندرة الاستئثار. البشرية قدّمت برهاناً خلاف 4 آلاف عام، على أنها من سلالة الجحيم. عصرنا الراهن وليد التوحش الأصيل والراسخ.
أمة بلا حروب كذبة. سلطة بلا عنف هراء. خط مستقيم خرافة. اسألوا برتولت بريشت. لسنا أبناء ماضٍ أبداً. نحن إضافات جديدة على ماض مضى، ولكنه كان وفياً لوحشيته وغرائزيته وعشقه للدم. شعب مسالم؟ إنسَ. القوة ضرورية. من دونها تُداس. القوة للحماية من أو للاعتداء على أحد. القوة وحدها عارية. لا بد من بشري أو إنسان أو جماعة أو قبيلة أو إمارة أو طائفة أو مصلحة أو.. لينتظم الكون في مشاريع صراع يكون الحق فيها دائماً مع الأقوى، وليس مع صاحب القضية.
يُحصّن الغرب نفسه بمنظومة من “القيم” و”العقائد” و”الأفكار” و”الخبرات” و”المعاهدات”، و”المواثيق”. يتكئ على مؤسسات وطنية وقومية وكونية. مؤسسات جذّابة. لـ”حماية الحقوق”، لـ”رعاية الطفولة”، لـ”خدمة التنمية”. لمساعدات عينية يعود ريعها إلى من هو في مقام الشكر. على الآخرين هنا، ضحايا هذه “العبودية الغذائية”، أن يمتثلوا ويطيعوا، وعليهم أن يخرجوا من سباتهم المدعم بالمثاليات: الحرية، العدالة، التنمية، التقدم، محاربة التمييز، مكافحة الفقر، الحفاظ على البيئة.. إلى آخره.. كل هذه “فراطة”. عليك أن تخضع. في زمن ما، اجتاحت عاصمة حقوق الإنسان والحرية والأخوة، أرض الجزائر. قالت فرنسا لهم، جئنا لنُحضّركم. لكنهم أخذوهم إلى المحارق. ملايين تمت إبادتهم. لذلك، معه حق ذلك الوقح: “الويل للضعفاء”.
في القرن التاسع عشر، عندما عرف محمد علي باشا ما آلت إليه جهوده من خسران، أكد للمستثمرين أنه سيحترم مصالح الأوروبيين، مقابل ألا يضحوا به. طز. ضحوا به بمذلة غير مسبوقة. كتب رسالته يقول: “أنا لست من دينهم، ولكنني إنسان مثلهم، ويجب أن أعامل بإنسانية”.
عبث. العالم يعيش في طابقين. الطابق العلوي لصاحب النفوذ والقوة والمال وجنون العظمة، والطابق السفلي للصلاة والدعاء وكتمان الألم وخفض الجبين.
الغرب غريب عنا. إنسانيته موضع شك مطلق. قانونه المثالي: “لا يُسمح لك بأن تكون مثلي”.
باعونا الحداثة. اشتريناها. مقابل أن نهجر ماضينا وحاضرنا وننتسب لثقافة ومصالح الغرب. كونوا سلفيين، ولكن كونوا معنا. إذا كنا معاً، فلا مانع من الحجاب وسواه. إذا لم تكونوا معنا، فالحجاب خرقة ممنوعة وتؤذي الجمهورية. كي تكون موجوداً، عليك أن تكون مطيعاً.
كان الظن المؤكد، أن العرب منذ خمسمائة عام، كانوا بحاجة إلى مسلسل من الانتفاضات والتغييرات. كانت الأفكار آنذاك بائنة. العقائد نقيق دجاج. الممارسة: ارتكاب الأخطاء وتبرير الطاعة.. ثم، جاءت مرحلة الاختراق الغربي للمشرق والمغرب. صنع الغرب هذا الحاضر المنكوب. زوّدونا بأفكار “الحداثة” المركنتيلية. تعرفنا منهم على الشيوعية والقومية والفاشية ثم أصبحنا زبائن منتوجاتهم التي غزت بلادنا وأبادت إمكانية بلوغ حداثة غير ملوثة بالتبعية. كي تكون محترماً وموجوداً، عليك أن تكون بهيئة غربية، وتنطق بكلام غربي وتنتهج سياسات غربية. تريد أن تبقى على هويتك لكن من دون التزام بها. عليك أن تتعصرن وتتغربن. أن تصير عاملاً تكد من أجل انتصار حضارتهم المكلفة والمدمرة. وإذا لم تضع نفسك في هذا المسار الحداثي، فأنت مصاب بسرطان التخلف وهويتك عار عليك، حتى ولو كانت هوية دينية.
نجحت السياسات الغربية، في رسم جغرافية وثقافة المنطقة بكاملها. سُنّة وشيعة. شيوعيون ومؤمنون. ليبراليون واشتراكيون إلخ.. حصل ما يناسب قولاً مأثوراً عن الظلم الأبوي: “ان هذا الذي يقتلني يعجبني.. وهذا الذي يدمرني، يبهرني”؛ وعليه، فإن التأسيس على الحداثة، يتطلب حتماً تدمير البنى الثقافية والسياسية والتاريخية واعتبارها ثقافة عداء. غير أن هذه المحاكمة الغربية للشرق، لم تمنعه في أن يكون اجتياحياً بلا أسباب. إلحاقياً بالقوة. حرية التجارة هي دين الأديان. غزو الأسواق دليل انفتاح وإفقار الفقراء أكثر دليل رقي وتطور. الانفتاح ضروري، حتى للمخدرات.. نعم، كي يستقيم بناء الحداثة السياسية والمالية والثقافية والاجتماعية، لا بد من تدمير ما سلف من حياة وقضايا..
حدث أن تحوّل عرب كثيرون فانتموا إلى غرب ساحق وأقاموا في حظيرته، بعناية سياسية وحماية دولية، مقابل نفط سخي، وطرق مواصلات حيوية، ورساميل تعرف أن إقامتها لا جدوى لها إلا في مصارف الغرب وشركاته.. وبسرعة تحوَّلت صحراء العرب إلى جنّات عدن.
الغريب، أننا ما زلنا لا نشبه الغرب. نُقلّده فقط. يُملي علينا فنصرخ به. يزورنا فنرحب به. نفرش له السجادة الحمراء المرصعة برسوم على شكل قلوب. “يا عيب الشوم”. لا يعوز العربي الذكاء. لا تعوزه العقلانية. يعوزه الأفق. الآفاق العربية مقفلة وممنوعة. الممالك مسموح لها أن تكون السلطة القابلة بفتح الأسواق والالتحاق بقافلة الاستهلاك.
المعركة من الأساس، لم تكن بين غرب مسيحي وشرق إسلامي. وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نُفسّر اجتياحات الغرب بدءاً من القرن التاسع عشر، حتى اليوم. اجتياحات لأفريقيا، لآسيا، لأميركا اللاتينية.. المال ورأس المال لا دين له أبداً. يمتطي الأديان عندما يحتاج إليها. حروب صليبية أو دينية أو فاشية إلخ.. المهم أن يصبح العالم محكوماً كله، بمطرقة الرأسمال.
نحن راهناً، في مسيرة عنوانها: دع القافلة تسير إلى غايتها. “يا حرام”.
إنما.. في أمكنة كثيرة من هذا العالم، بؤر مؤذية لمسار الاجتياحات. بعضها عندنا كما في فلسطين. أما ما تبقى من الخريطة العربية؛ فقل: “ليت ساعة مندم”. كثيرة هي الدول والسلطات والشعوب، التي تعيش على مقربة من براكين العنف. العرب ضربوا الرقم القياسي.
هل من حل ما؟
اخرس. لا جواب البتة.
على مستوى الحياة الفردية، أو ما تبقى منها، هناك شعور بأن العالم اليوم، هو المكان المثالي الذي تلعب فيه التراجيديا. الإنسان المعاصر يُريد أن ينسى مأساته ولكنه يفاجأ بمآسٍ أعمق. يتمنى لو يقتل ذاكرته. ومعروف أن شعباً يفقد ذاكرته يتبعثر ويصبح ضحية فوضى كونية.
أما نحن، فأمامنا ما يلي:
إن شعباً يأكل طعاماً جديداً بوعاء قديم الذاكرة، يصاب بالتسمم. ذاكرتنا ليست من ماء على رخام. ذاكرتنا من دم نزف من جراح في اللحم الحي. إن طوائفنا تُمسك الشمس بقرنيها وتتمنى أن تعود إلى شروقها. أن تعود إلى وراء كان حلماً، إلى تخوم القرون الوسطى.. لكن ذلك مستحيل.
الخلاصة؛ أننا لا نتقدم.
أننا نتخثر.
غريب. إنهم يُحدّثوننا عن المستقبل.
هل نصل إلى زمن نقفل فيه الستارة على واقع موبوء وجاهل؟
قال الشاعر:
“وما نيل المطالب بالتمني”.