غزة ـ حلمي موسى
في اليوم الثامن والأربعين بعد المئة، يحدونا أمل كبير بأننا نقترب من انتهاء الغمة. فما بعد الضيق إلّا الفرج دوما، وحقنا في وطننا يعلو ولا يعلا عليه، وإنّنا حتما لمنتصرون.
***
أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أمس، أن بلاده ستبدأ في إسقاط المساعدات الإنسانية من طائرات سلاح الجو الأميركي في غزة “خلال الأيام المقبلة”، معتبرا أن المساعدات التي وصلت إلى غزة حتى الآن “ليست كافية، ولذلك فإن واشنطن تحاول التوصل إلى اتفاق فوري لوقف إطلاق النار” للسماح بإدخال المزيد من المساعدات.
ولاقى كلام بايدن انتقادات كثيرة في الإعلام ومن بعض الساسة، لأن كلمة منه كافية لإلزام العدو بفتح المعابر والسماح بدخول الشاحنات بوتيرة تبعد المجاعة عن أهل غزة، وتضمن تدفق الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود وباقي ضرورات الحياة.
في المقابل، اعتبر البعض أن إعلان بايدن يختلف عما أعلنه سواه من قادة، لأنه أصلا شريك في الحرب على غزة. ولذلك، فإن كلامه يعبّر، في جزء منه، عن محاولة لإشهار الخلاف مع رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، مع أنّه من الواضح أن الخلاف ليس استراتيجيا، حتى الآن على الأقل، وهو ينحصر في قضايا تبادل الأسرى والهدنة وحجم المعونات الإنسانية اللازمة لدرء المجاعة في قطاع غزة، وخصوصا شمالها.
ولكن هناك من يعتقد أن الخلاف الأكبر هو حول ما يعرف بـ “اليوم التالي” حيث تعلن واشنطن عن تمسّكها بحل الدولتين الذي يرفضه نتنياهو.
وقال مسؤولون أميركيون كبار، خلال الأسبوع، إن قيام البيت الأبيض بالبحث في موضوع اسقاط المعونات جوا يظهر “مدى قلق إدارة بايدن من الأزمة الإنسانية في قطاع غزة”، وأنها “تواجه صعوبة في زيادة حجم المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى قطاع غزة عبر إسرائيل”.
وقال أحد المسؤولين الأميركيين الكبار إن “الوضع سيء فعلا. نحن غير قادرين على إدخال ما يكفي من شاحنات المساعدات ونحتاج إلى إجراءات يائسة مثل إسقاط الغذاء من الطائرات في غزة”.
وتدرك واشنطن أن العقبة الأساسية هي إسرائيل التي تمنع دخول المساعدات أصلا من مصر، كما أنها تمنع وصولها إلى الشمال حصرا، وتطلق النار على الشرطة الفلسطينية التي تحاول تأمين سلامة قوافل المساعدات، بعدما توقفت معظم المنظمات الإنسانية عن القيام بالمهمة بسبب مخاطر تعرضها للاعتداءات الإسرائيلية.
وجاءت “مجزرة شارع الرشيد”، أو “مجزرة الطحين”، لتلقي أضواء جديدة على ما يجري فعليا في غزة. فالمجزرة أسهمت من جهة في إعاقة التوصل إلى اتفاق بشأن التبادل كان بايدن يأمل إنجازه قبل يوم الاثنين المقبل، ومن جهة أخرى، أظهرت مقدار الوحشية الإسرائيلية التي لا يمكن منعها أو السكوت عنها.
وقد اشار مسؤولون أميركيون، مجددا، إلى أن بايدن بات يفقد صبره تجاه نتنياهو وأنه إذا ثبت أنه يعيق صفقة التبادل فإن حسابه عند بايدن سيكون عسيرا.
وكتب المراسل العسكري لصحيفة “هآرتس”، عاموس هارئيل أن “من المحتمل أن تلجأ الولايات المتحدة الآن الى استغلال الكارثة (مجزرة الرشيد) لزيادة الضغط على إسرائيل من اجل كبح نشاطاتها العسكرية والموافقة على تسوية سريعة. ولكن هناك لاعب آخر هو “حماس”، التي تدرك بأنها أصبحت تتمتع بقدر نادر من القوة على طاولة المفاوضات”.
أضاف هارئيل “أن أكثر السيناريوهات تشاؤما بالنسبة لإسرائيل هو أنه من الممكن أن تواجه طلبا دوليا، شاملا وحاسما، لوقف إطلاق النار من دون التوصل الى حل، ولو جزئي، لمشكلة الرهائن”.
وأعرب عن اعتقاده بأن “نتنياهو يواجه الآن، في ساحة الحرب، صعوبة مزدوجة، بل ربما مضاعفة، إذ أنّه وجد نفسه في زاوية حيث يتعرّض لضغط كبير لوقف العمليات الهجومية في القطاع. أما في الساحة السياسية الداخلية، فقد انضم وزير الدفاع يؤآف غالانت أمس الأول لوزراء “المعسكر الرسمي” في نصب كمين لنتنياهو في مسألة قانون التجنيد، وهو ما يمكن، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، أن يؤجج حركة الاحتجاج على خلفية القمع الصارخ لمن يتحملون عبء الخدمة العسكرية مقارنة بالمتهربين المعفيين من الحريديين”.
واعتبر أنه “بطريقة أو بأخرى، تبدو وعود نتنياهو التي أطلقها في نهاية الأسبوع بتحقيق النصر الكامل والسريع، جوفاء أكثر من أي وقت مضى”.
وأشار هارئيل إلى أن “روح اليأس، يصاحبها قلق شديد، تسود كل حديث يدور في هذه الفترة في العاصمة الأميركية حول مستقبل الشرق الأوسط. ما زال بايدن مؤيدا قويا للصهيونية، لكن إدارته معادية للحكومة الإسرائيلية الحالية بطريقة غير مسبوقة في العلاقات الثنائية. لا شك أن الولايات المتحدة وقفت الى جانب إسرائيل بعد 7 أكتوبر، لكن مرت خمسة أشهر تقريبا منذ اندلاع الحرب في القطاع، والآن الأميركيون يجدون صعوبة متزايدة في فهم توجه نتنياهو”.
ولاحظ أن “الهجمات على تصرفات رئيس الحكومة وسياسته هي تقريبا موضوع يومي، جزء منه يتم بالتسريب لوسائل الإعلام الاميركية، وجزء منه بالتصريحات العلنية”، مضيفا أنه “سيتم تكريس الاسبوعين المقبلين لبذل جهد آخر من أجل التوصل الى استكمال صفقة جديدة لإطلاق سراح المخطوفين، تقريبا مع حلول شهر رمضان في 10 آذار”.
إلا أنه رأى أنه “إذا لم يتم تحقيق أي تقدم، فإن أصبع الاتهام ربما يوجّه نحو إسرائيل أيضا. فإذا كانت إسرائيل هي التي تصمم على وضع العقبات أمام اتمام الصفقة، فان هذا الامر يمكن أن يتمثل بتصريح صريح من الرئيس الأميركي يفيد بأن نتنياهو هو الذي أفشل المفاوضات.”
وذهب إلى حد القول إلى إنه “يجب عدم استبعاد أيضا إمكانية أن يقرر الأميركيون وقف استخدام الفيتو على قرارات ضد إسرائيل في مجلس الأمن. فقد حذّر بايدن هذا الأسبوع علنا بأنه إذا واصلت الحكومة المنحى الصقوري الحالي، فان إسرائيل يمكن أن تفقد الدعم في أرجاء العالم كله”.
وخلص إلى أن “خيبة أمل واشنطن تنبع مما اعتبرته الإدارة الأميركية مزيجا من الغطرسة ونكران الجميل من قبل إسرائيل، ليس لأن بايدن وقف الى جانب إسرائيل على الفور بعد البدء في المعركة فحسب، بل أيضا لأنه أرسل على الفور تهديدا لكل من إيران وحزب الله بعدم الانضمام للهجوم الذي بدأه زعيم “حماس” يحيى السنوار. في الوقت نفسه، اهتم بايدن بأن يعيد ملء مخازن سلاح الجيش الإسرائيلي مرات عدّة، عبر جسور جويّة وبحريّة من الشحنات”.
إلى ذلك، أشار تقرير صادر عن “مركز بحوث الأمن القومي”، أعدّه الباحثان الداد شفيت وتشاك فرايلخ، إلى أن “الوقوف الأميركي إلى جانب إسرائيل في حرب «السيوف الحديدية» (حرب غزة الأخيرة) لم يسبق له مثيل، ربما باستثناء حرب “يوم الغفران” (حرب 1973). فالولايات المتحدة تشارك اسرائيل في هدف القضاء على “حماس”، وخلق واقع أمني جديد في قطاع غزة والمنطقة الحدودية”.
أضاف التقرير أنه “من الناحية العملية، كان هناك تقسيم غير رسمي للعمل بين الطرفين، حيث ركّزت إسرائيل على حماس، وعملت الولايات المتحدة على إضعاف همة إيران ووكلائها عن التصعيد إلى حد شن حملة إقليمية. ولكن، في الوقت نفسه، وضعت الإدارة حدوداً لتصرفات إسرائيل، ولطبيعة القتال في غزة، وطالبت بتقليص الضرر الذي يلحق بالمدنيين وبتوفير الحد الأقصى من المساعدات الإنسانية؛ واحتواء الحرب في قطاع غزة ومنع التصعيد في ساحات أخرى؛ ومنع ترحيل الفلسطينيين من القطاع؛ والانتقال السريع إلى المرحلة الثالثة من الحملة والتخفيف من حدتها.”
وتابع أن الإدارة الأميركية “تركّز حاليا على جهود التوصل إلى اتفاق لإعادة المختطفين يتضمن هدنة طويلة الأمد، تركز خلالها على تعزيز الخطوات التي ستؤدي إلى نهاية الحرب وتصميم نظام إقليمي جديد على أساس إقامة الدولة الفلسطينية، والتطبيع مع السعودية، وإنشاء جبهة ضد إيران. لكن عدم استعداد إسرائيل لصياغة مفهوم “اليوم التالي”، ومعارضتها للرؤية التي وضعتها الإدارة، وكذلك نيتها توسيع الحملة في قطاع غزة لتشمل رفح أيضاً، هي أبرز نقاط الخلاف بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية”.
وبعدما استعرض التقرير مواقف الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل طوال الحرب، حتى في مواجهة الأسرة الدولية، وخصوصا في مجلس الأمن، رأى أن “هناك عددا من التطورات المحتملة التي يمكن أن تشكل معضلات صعبة للإدارة بالفعل في الأسابيع المقبلة وتؤثر على العلاقات مع إسرائيل.”
واعتبر التقرير أن “الانزعاج في الإدارة يظهر من خلال تنامي شعورها بأن قرارات نتنياهو في ما يتعلق بطريقة إدارة الحرب بشكل عام، وقضية المختطفين بشكل خاص، تتأثر باعتبارات حزبية.”
ورأى أن “تطورات قضية المختطفين، وبعضهم مواطنون أميركيون، يمكن أن تشكل الأساس لتمديد الحملة (أي الحرب)، بل وحتى لقرار إسرائيلي بشن عملية واسعة النطاق في رفح، قبل الاستعدادات الأولية اللازمة لها، ويمكن أن تؤدي أيضاً إلى تصعيد كبير من جانب حزب الله على الساحة الشمالية”، مرجحا أن تلجأ “الإدارة لاستخدام خطوات مؤثّرة لحمل إسرائيل على إظهار القدر الأقصى من ضبط النفس. وبشكل رئيسي، تخشى الإدارة أن تجد نفسها، في القضايا الثلاث، بحاجة إلى دعم الإجراءات الإسرائيلية المخالفة لمواقفها”.
وخلص التقرير إلى أنه “هكذا، تصبح إسرائيل، على نحو متزايد، الجانب “المذنب” في الخطاب الأميركي. إن عقوداً من الإحباط والغضب المتراكم، في مواجهة رفض إسرائيل المستمر للمواقف الأميركية الأساسية، وفي مقدمتها الحاجة إلى تعزيز حل الدولتين في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تصل الآن إلى آفاق جديدة، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية”.