في بداية القرن العشرين، ظنّ لينين أن الإمبريالية ستكون أعلى مراحل الرأسمالية وآخرها. غاب عن باله أن الرأسمالية تعيش في توسّع دائم، وأن هذا التوسّع بما يُسمى العولمة هو المرحلة الأخيرة التي ربما تبعتها مراحل أخرى.
ماذا يعني ذلك؟ الرأسمالية تتوسّع. وهي إمبريالية بطبيعتها. ربما كانت الإمبريالية آخر مراحل توسع الرأسمالية أفقياً لكن توسعها العامودي شيء آخر. زيادة التضخّم؛ اختراع أشكال أخرى من العملة، وفحش البورصات العالمية، جميعها تقع في خانة التوسّع العامودي. لا مناطق جديدة مكتشفة كي تُسيطر عليها الرأسمالية وتنهبها. العولمة هي التوسّع في المكان الواحد على الأرض وإيجاد وسائل جديدة للسلب والنهب وتراكم الثروة. العولمة هي ذلك التوسّع العامودي الذي يُعمّق من استغلال ذوي الدخل المحدود، وعمادهم البروليتاريا. التضخّم هو الأكثر تعبيراً عن تعميق هذا الهدف. أنت تشتري كميات أقل بالكمية ذاتها من النقود التي تتناقص قيمتها الشرائية نتيجة غلاء الأسعار. وإذا كان ذلك توسعاً عامودياً، فإننا لا نرى فيه إلا ضيق نفس ينتج عنه اللجوء إلى العملات الرقمية، وربما الرجوع إلى استخدام الأصداف كنقود للتبادلية.
لم تعد الرأسمالية تنتج من أجل السوق لإرضاء المستهلكين، بل هي المال بأشكاله القديمة والجديدة الذي تنتجه، وتزيد أرباحها بالتضخم لا برفع الإنتاجية. تخاف الرأسمالية من الطبقة العاملة في بلدها، فقرّرت أن تُصدّر صناعاتها الأساسية، عدا صناعة السلاح طبعاً، والتكنولوجيا الحديثة أيضاً، طمعاً بيد عاملة رخيصة تقمعها أنظمة الاستبداد التي تتحالف معها.
في العقود الأخيرة، لم تتزايد الأجور في بلدان المركز الرأسمالي لأنه لم يعد متاحاً لها الكثير من الوظائف التي كانت تعمل بها. يرفع دونالد ترامب شعار “أميركا أولاً”، ويحاول إعادة أميركا إلى عظمتها الإنتاجية التي عرفتها سابقاً. لكن الرأسمالية ليست طوع بنانه، بل هي تتسرّب إلى حيث تُحقّق أكثر ما يكون من الربح. وهذا يكون في إعادة موضعة الكثير من الصناعات الأميركية (النسيح، الملابس والسيارات) في آسيا الشرقية التي لا تكاد توجد فيها نقابات عمالية تُطالب برفع الأجور. فتحالف الرأسمالية مع أنظمة الاستبداد حول العالم هو أحد مظاهر العولمة وآخر مراحل الرأسمالية.
وما استخدام تعبير العولمة إلا للتعمية. فأول ما يفهمه الإنسان من تعبير العولمة هو انفتاح العالم أمامه، ثم يُفاجأ أن الأمر ليس كذلك. إذ تنغلق الحدود، وتكثر متطلبات “الفيزا” اللازمة. ويزداد نفور أهل بلدان المركز الرأسمالي من القادمين، بخاصة إذا لم يكونوا رأسماليين وكانوا فقراء مهاجرين للعمل وما لديهم مال للإنفاق. فصورتهم الرأسمالية أنهم جاؤوا لمنافسة عمال البلدان التي جاؤوا إليها. فخاف هؤلاء على وضعهم الذي يشعرون أنه أساسهم ويفقدون كل الميزات المتعلقة به، بل يفقدون وظائفهم أمام جحافل المهاجرين. فالرأسمالية الباحثة عن عمال بأجور متدنية تقوم إما باستقبال المهاجرين لذلك، أو تُصدّر صناعاتها إلى أحضان البلدان الفقيرة التي كانت تُشكّل عالماً ثالثاً، والتي تعج بالعاطلين عن العمل، والذين هم على استعداد للقبول بما يرد إليهم. فيعملون، وبخاصة النساء، في الصناعات الواردة إليهم. وهذه الصناعات لا يملكها الرأسماليون في بلادهم، بل الشركات الكبرى في بلدان المركز.
مع انتقال الصناعات التاركة بلادها في المركز الرأسمالي، لم يتزايد الصراع الطبقي في بلدان المركز بل جرى تدمير النقابات العمالية. وهذا هو العنوان الأكبر للنيوليبرالية. كان الحقد موجهاً ليس ضد الطبقة الرأسمالية الحاكمة بل ضد الوافدين من المهاجرين الذين يخافون من حلولهم مكان عمال البلد الآتين إليه. وعليه فإن الصراع الطبقي يتحوّل لدى عمال المركز الرأسمالي من النضال ضد الطبقة الرأسمالية إلى النضال ضد العمال الآخرين، والوافدين لضرورات الرأسمالية من الأطراف إلى المركز. ويصير النضال متحولاً من مطلبي لزيادة الأجور ضد السادة إلى النضال ضد العمال الآخرين ذوي البشرة الداكنة، والوافدين من بلدان الأطراف الأفريقية والأسيوية. تدريجياً يتحول النضال المطلبي إلى نضال عنصري. وتشتد تبعية عمال المركز الرأسمالي لحكامه والرأسماليين. فيتحالف عمال المركز مع أصحاب العمل ضد الغرباء. وهذا ما يُفسّر صعود الفاشية والنازية الجديدة؛ فالعنصرية هي نتاج الرأسمالية الجديدة (النيوليبرالية)، وهي قائمة على الخوف من عالم يسمر لونه، وتزداد ثروات أسياده الذين يلعبون بالمشاعر العنصرية لدى الطبقات الدنيا، التي لم يعد صراعها مطرحه على أرض العمل بل يستحوذ على الوطن المهدد بأوهام غزو المهاجرين. هذا ما يُعبّر عنه صعود ترامب نتيجة تهديد عمال بلاده بغيرهم، وهو يدّعي الغيرة على وطنه عارفاً أن ذلك إن جرى تطبيقه فستكون نتائجه المؤكدة زيادة أجور البروليتاريا الراكدة مكانها منذ عقود. يريد عنصرية كي لا يدفع الثمن، وكي لا يُخفّض التكلفة.
لم تعد العنصرية، الفاشية أو النازية، سمة الطبقات العليا التي أسّستها منذ قرنين، بل صارت سمة الطبقات الدنيا من خلال سعيها الحثيث لتصير هي الفطرة أو ما يسمى الوعي السائد (common sense). العنصرية الكامنة في الغرب تظهر بأحلى مظاهرها في قبلة الرأسمالية عند ترامب وأتباعه من خلال شعارات “أميركا أولاً”، و”سنعيد أميركا إلى عظمتها الأولى”، فكأنها كانت يوماً كذلك.
في زمن النيوليبرالية يطغى سؤال “من أنا” الفاشي، ويطغى على سؤال “كيف أنا” الذي كان سائداً في عصر الليبرالية. الجواب على من أنا يُشجّع جواب الفاشيات القومية التي تطغى على الطبقيات التي صارت تعتبر أن ما يجمعها مع أغنياء ورأسماليي قوميتها أكثر حماية لها من الوافد المهاجر. لذلك تزدهر الفاشية والعنصرية في بلدان المركز، ويطغى سؤال “من نحن” (الفاشي) على سؤال “كيف نحن” (الطبقي)، فيعتقد أصحاب الثروات الكبرى أنهم مصدر المجتمع وخالقيه، بحكم ما لديهم. كما يعتبر أصحاب الطبقة الوسطى ومن هم أدنى في السلم الاجتماعي بصوابية سؤال “من نحن”، وتتسرّب إليهم أيديولوجيا الطبقة العليا بعنوان النيوليبرالية، ويصير لهذه نجاحاً منقطع النظير. ويصير ترامب وأنصاره أقوى ممكّني الطبقات الدنيا التي كانوا في زمن الليبرالية يعتبرونها مجرد رعاع، في أحسن الأحوال.
يشتد الاعتداد بالأنا عند الجميع، وتتحوّل هذه من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، لا تطويراً لها، بل تشكيكاً بها. إذ تعتبر الحداثة قاصرة عن تلبية الحاجات الأيديولوجية للطبقات العليا في زمن سيطرة الرأسمال المالي الذي يقود تركزه في أيدي قلة من الناس إلى اشتداد الاعتداد بأنفسهم وإلى رسوخ الاعتبار عندهم أن الطبقات الدنيا هم جحافل المشاهدين والمستهلكين. المشاهدون لبهلونيات الطبقات العليا، والمستهلكون لما يُرمى أمامهم من سلع تلزم، بينما لا تكون هي حاجات أساسية للعيش. ويصير التواصل الاجتماعي نمطاً جديداً من العيش. وتتمتّن الصداقة مع الهاتف الجوال الذي تشتد الحاجة إليه، بحيث أنك لا تستطيع أن تتحرّك بدونه، حتى ولو كانت المسألة لا تتعدى دخول الحمّام.
وتندرج الأصولية الدينية في إطار سياسات الهوية. إذ أن الأصولية الدينية معنية بالدرجة الأولى بسؤال “الأنا”، ولا تهتم للطبقات وسؤالها “الكيف”. والأصولية تلتقي مع النيوليبرالية في اعتبار الذات مصدر الموضوع، والمال مصدر الاقتصاد، لا نتيجة له، مهما كانت الأساليب الاجرامية لجمعه وتراكم الثروات.
كادت الليبرالية، قبل منتصف القرن العشرين، أن تتحوّل إلى الاشتراكية. وهي ما كاد يتحقق في عهدها نموذج الدولة الراعية لمجتمعها تعليمياً، وصحياً، وعنايةً بالمسنين، والضمانات الاجتماعية. بعكس النيوليبرالية التي تُحاول أن تنفصل عن كل ذلك لأنها صارت تمتلك الرأي العام، أو ما يسمى الحس السليم (السائد). وصارت هي مصدر تشريعات يُعبّر عنها ترامب وأتباعه. وما يتمتّع به الدين السياسي من غباء يجعله يعتقد أنه يعمل في سبيل مرضاة الله بينما هو أداة بيد الرأسمالية المالية التي لا ينال منها إلا فتات الموائد.
تقبض الطبقة العليا على أيديولوجيا الجماهير، وتُقرّر ما يُحركها بسبب الظروف التي أدت إلى صعود النيوليبرالية وما بعد الحداثة. إذ هي تغذي نفسها بالاعتداد بالنفس: لدى الطبقات العليا بسبب تضخّم ما تمتلكه من ثروات، ولدى الطبقات الدنيا التي تظن أنها بذلك تُعوّض فقرها. فتراجعت الحركات الشيوعية والاشتراكية. وتوحدت الطبقات العليا في مطالبها وفي اعتبارها لهويتها. لكن اللحمة إذ تخفي تناقضات أساسية، لا بدّ أن تكون إلا عابرة، إذ أنها تحققت بواسطتها لحمة على زغل. فالطبقات الدنيا تنوء تحت أعباء فقرها، ولا بدّ أن تكتشف أوهام الهوية التي تقود إلى استغلالها. وستكتشف أيضاً أن حروب الهوية لم تحصل نتيجة تطور اجتماعي سياسي بل نتيجة انسداد التطوّر الرأسمالي، الذي عالجته الطبقات العليا بسياسات الهوية، وعجزت الطبقات الدنيا سوى عن الانصياع وراءها بما أثقل كاهلها بالتقنيات المستحدثة وتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، علماً بأن هذه ذات حدين، ومن الممكن أن تعمل لعكس ما تُسخّر له الآن.
بعد أن كانت البروليتاريا في عهد الليبرالية تصعد وتُنظّم نفسها في نقابات مهمتها النضال ضد مستغليها، تحوّلت على يد النيوليبرالية بسبب إبداعاتها الرقمية والتكنولوجيا عموماً وصعود القوميات الفاشية والأصوليات الدينية إلى جمهور يتبع مستغليه، ورعاع ينفذون سياساتهم المستندة إلى الهوية. وهذا ما يُمكن تسميته بالمرحلة الأخيرة للرأسمالية، ومن غير المعروف أن تلك سوف تكون نهاية النظام الرأسمالي الذي يُحاول الانتقال من الإنجاز على الأرض إلى الإنجاز في الفضاء ليُبهر؛ وسيكون الذكاء الإصطناعي وسيلته الأيديولوجية عندما يحتكر المعرفة، ليس لأنه له يد في زيادة المعرفة، بل لأن لديه من الوسائل ما يتيح له جمعها واحتكارها، وعن طريق احتكار العلم الحديث، وهذا ما يُسميه البعض إقطاعا تكنولوجياً.