متى نلتقي بتفاؤل؟ الأحلام السياسية ماتت مراراً. كأننا بدائيون مزمنون. الحرية لعنة مباركة ومطاردة. الأوطان عاصية عن الوجود. “الدول” منصات تحكّم وتزلُّم. الحرية كفر سياسي. الشعب رعاع. التغيير عاقر والوراء أمامنا. الاستبداد عقيدة “دينو – سياسية” والسياسة قرصنة، أما السيادة فتوسّل وتسوُّل.
فلسطين الخالدة، شاهدٌ ضميريٌ وسياسيٌ وأخلاقيٌ، على رداءة الواقع العربي. كانت فيما قبل، قبلةً قوميةً فاشلةً، وتديناً فاجراً وكيانية أتقنت العداء الأخوي. إقامة الفلسطيني في “أمة الشتات العربي” تكون إما في السجون أو في المخيمات أو في المنافي. الفلسطيني، كان عليه أن يكون مُغيباً. يصادف ذلك، مع عبقرية الالتحاق العربي بقطار السلامة. كانت العقائد منصة ببغائية: “الحق معنا”. يتلون ويُعلنون أنهم غداً على أبواب فلسطين. صدّقونا وإلا. لم نصدّقهم، لذا فتحت السجون لتحرير الفلسطيني من فلسطين على مصاريعها. القبضة الأمنية والسياسية تمرين يومي على الحكم والسجن. عالم عربي غادر عروبته، وطلّق فلسطين من زمان. صار ملحقاً بغرب يسارع إلى تطبيع مع “إسرائيل”. من لا يسير بقافلة التطبيع، إما خائف أو جبان. أو ينتهز مناسبة للتخلي عن خرقة الوطن الفلسطيني.
هذا الوارد أعلاه، ليس جديداً. الكارثة الفلسطينية تتجدد، واليأس يتجوَّل ويصل إلى ترويض الإنسان العربي على فضيلة التخلي، إلى أن اندلعت عاصفة 7 أكتوبر/تشرين الأول.
هنا، بدأ تاريخ آخر. صمت تام لدول التطبيع. خيانة مبرمة لكل المبادئ وحقوق الإنسان والقيم. إلخ. تعرّى العالم الثائر من زيّه وبانت عورته. إنه قرصان بكل ما تعنيه الكلمة. بعدها، تحوّلت فلسطين إلى عقيدة نطقت بها قبضات الملايين، عفواً، عشرات الملايين، وقالت بحناجر “سوبرانية”، في كل الساحات: الحرية لفلسطين، والعار لـ”إسرائيل” ومن معها.
تغيّر العالم. الصمت العربي دين سياسي مزمن. الجماهير في العالم، ألزمت فحول الدول العظمى، بممارسة ديكتاتورية غير مسبوقة: فلسطين ممنوعة. صور الضحايا مُحرّمة. رموز القضية مُحاربة. الإعلام يخوض معاركه ضد الكوفية. لا يعترف بالدم الفلسطيني. لم يكن كذلك من قبل. لم تخف الجماهير والجموع في العالم. مزّقوا ماضي دولهم وقادتهم. عبروا الجسور ودمّروها. صاروا في قلب غزة المنتشرة في القارات الخمس. ليسوا بحاجة إلى قادة. حناجرهم، أخلاقهم، قيمهم، عراقتهم، إنسانيتهم هي التي تقودهم وهي التي برهنت أن العالم عالمان: عالم الإنسان، وعالم التوحش. أليست هذه هي الصورة الآن؟ أما الإعلام، فبانت عورته، إنه عاهر. منافق. مباع. يجيد اختراع الأكاذيب. لكن ذلك لم يشفع له. التهمة سهلة. الإعلام، حذاء أو لسان حذاء لأقدام بدل الرؤوس.
كان عليَّ أن أبدأ المقالة، بمحاورة ما طرحه المفكّر اللبناني الفضل شلق منذ عشرة أيام في مقالته الجريئة في موقعي ( 180post) و(طلال سلمان) لكنني “شردت” كعادتي، وها أنا أعود لمناقشة ما جاء في مقترحه الجريء.. والجديد.
أعود هنا إلى سياق النص. تغيَّر العالم. فلسطين القضية، بلغت أفق الوجود.. يوماً ما.. زمناً ما.. وليس ذلك ببعيد. راهناً، “إسرائيل هي ملك اليهود”. من يقبل ذلك من جماهير الغضب الإنساني الراقي والحاسم. الفلسطيني حضر بكامل ما تحمّله من ظلم وقتل وتهجير وإبادات، حاملاً سلاحه، بطريقه فذة. أرضه له. يستعيدها بدمه. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق أو.. أفكاره.
كانت “إسرائيل” ولا تزال أقوى من كل الدول العربية، الفضفاضة بشعوبها.. ولكن هذه القوة تعثرت في غزة، فلسطين الصغرى. نحو أربعة أشهر من القتال والقتل. ولا تزال “إسرائيل” تنجح في القتل، وتخسر في العالم (باستثناء العرب طبعاً).
أما بعد، فلنفتح نافذة المستقبل. عن ماذا ستسفر هذه المعارك، وكيف “تصرف” بالسياسة هذه المقاومة التي لم يكن لها مثيل في العالم، والتي لها فضيلة غير مسبوقة أبداً، لا في الحروب ولا في السياسة ولا في الأديان. فلسطين غطاء الروح والقبضة، في عواصم ومدن العالم.
فلنحاول التعرف على الممكن والمستحيل غداً.
أولاً: “إسرائيل” العظمى لم تعد كذلك، هل قبلت بحل الدولتين. دولة “إسرائيل”، ودويلة فلسطين. وهل دولة فلسطين ستكون منزوعة السلاح؟
جواب، إن حل الدولتين وهم وخرافة. ليس حلاً لمشكلة تواجد متعادين على امتداد قرن. “إسرائيل” محكومة بعقيدة صهيونية. لا تريد فلسطين كلها، بل هي نقطة انطلاق لنفوذ حصين في الدول “العربية”.
ثانياً: لم يتخلَّ الفلسطيني “المهزوم” عن أرضه، ولا تجرأ كيان عربي على نسج مصالحة مع إسرائيل، إلا بعد انسحاب دول كبيرة وهشة، والتحاقها بركب التنازل. “إسرائيل” وجدت لتبقى، ولن يقوى العرب عليها. هي ولاية أميركية، في بلاد العم سام العربية. الفلسطيني يريد فلسطين وفي عمق عقيدته وإيمانه، هي من النهر إلى البحر. وهذا المستحيل الراهن، هو عقيدة أقوى من إيمانه الديني. هذه أرضنا وسماؤنا وأسماؤنا وغدنا. وهو أمر غير مستحيل، من ناضل منذ وعد بلفور، يستطيع أن يبلغ قامة القرن الثاني. سلاحه دمه. وهذا كافٍ. إذاً، لا “الإسرائيلي” يقبل بجزء من فلسطين كوطن إضافي له. ولا الفلسطيني يقبل بغير فلسطين كاملة، مهما طال الزمن، ولا يعوَّل في ذلك، إلا على فلسطينيي الضفة وغزة، وعلى قديسي المخيمات والشتات، من دون رهان على شعوب عربية ملجومة.
وعليه؛ مستحيلان لا يصنعان معادلة، مهما طال الزمن.
ثالثاً: إسرائيل من دون فلسطين كجارين، مستحيل وصعب. بل انها وصفة لتعايش الأعداء. وهناك عدو معتدٍ ومزمن ومدعوم وهناك فلسطيني معادٍ لإسرائيل… ضدان لا يتشابهان. وكل “حل” هو مجلبة صراع.
يرسم الفضل شلق، بعد إدانته الصارمة والصادقة، مسار الصهيونية وإسرائيل في المنطقة، ليصل إلى ضرورة التفكير، على مدى بعيد، بمآلات الحلول الفاشلة، والبحث عن اقتراح حل: دولة واحدة لشعبين. فالإسرائيلي لا يقبل بوجود دولة فلسطينية. والفلسطيني يضمر ولا يقبل أن تكون إسرائيل بديلاً عن فلسطين. وتجربة مئة عام أسفرت عن فشل مريع وحروب وتشريد وصراع ودماء… وما يحدث اليوم هو فصل ضمن مسار دموي، وليس الفصل الأخير.
هذا اقتراح بحاجة إلى تفكير، وإلى زمن. هل ربع قرن كافٍ؟ أم نصف قرن! أم هذا حصرم رأيته في حلب. النقاش مفتوح في هذا المجال، بعد فتح دفاتر النهج العربي الذي أدى إلى الفشل القومي والنجاح البربري لـ”إسرائيل”.
“نحن خسرنا مراراً”. لا أفق لحل يزعج “إسرائيل” قليلاً ولا يرضي الفلسطيني إلا أقل من القليل. نحن إذاً في دوامة المستحيل.
غير أنني، قبل الولوج في تفاصيل هذا الاقتراح، أود أن أفتح صفحات النضال الفاشل، والحروب الهزائم، والأسباب التي جعلت كل هذه المحاولات فاشلة.
ثبت بالرهان المكرر، أن إسرائيل دولة عسكر أولاً. شعبها تعسكر. عقيدتها عسكرية. عسكرها حجر الرحى. باختصار “إسرائيل”، ثكنة عسكرية، وقائدة محور العدوان على المنطقة. التوراة والعقائد الدينية ليست إلا أحلاما. السلاح هو الواقعي، “إسرائيل” بُنيت وانتشرت بالأسلحة. بالغزو. بالطرد. بالإبادة. هذه الأرض التي استولت عليها، هي كلها لها، من البحر إلى النهر. إسرائيل ثكنة عسكرية وترسانة أسلحة غربية.
لذلك، هي التي قادت حرب الـ 56. وكان لها من العمر 8 سنوات فقط، عدوان على مصر بدعامة بريطانيا وفرنسا، حرب رابحة. من أول عبورها دم على قامتها.
وتوالت حروب “إسرائيل”. حرب كل عشر سنوات تقريباً، تربح فيها على دول عربية “عملاقة خطابياً وسكانياً وبهورة”. حرب النكسة، أسفرت عن هزيمة جيوش دول “باسلة” وخسارة أراض جديدة، كثيرها ما زال محتلاً. ستة أيام كانت كافية لتركيع جيش مصر “العظيم”، وجيش سوريا “الأعظم” وجيش الأردن “المدعوم” كلامياً من بريطانيا.
ثم اندلعت حرب العام 1973. حرب استعادت فيها مصر سيناء، وصارت شريكاً لـ”إسرائيل”، وهذه خسارة بثمن خيانة.
إذاً: الحروب مع “إسرائيل”، ستكون لصالحها، جيوش العرب فولكلور نضالي. مهمة هذه الجيوش، التحكم لا الحكم. مصر نموذج عسكريتاري، سوريا الأمر ذاته.
هذا التراث المخزي يطرح أسئلة: ما هي وظيفة الجيوش العربية؟ الحكم والتحكم، أم حراسة الحرية وممارسة نهج التحرير؟ إذاً: لا تعويل على الجيوش أبداً. هي جيوش أنظمة وممالك وإمارات. هي السلطة والحكم والحكومة، بثمن نبذ الحرية والديموقراطية والعدالة. هذا أمر، تتفوق فيه “إسرائيل”، لأن جيشها ليس جيش حكومة أو حزب أو قائد أو دكتاتور أو ملك. “جيشها شعبها”.
هذا ليس عرضاً للتأريخ، بل للتأكيد في ما بعد، على أن المستحيل الفلسطيني ممكن جداً.
(*) الجزء الثاني بعنوان: تجارب المقاومة