»عريس، عريس، مد الكف واتحنى.
»وحياة عمرك ما تزعل حدا منا…«.
مد »زعل سلوم« كفه، ورمى بالحنة على شعور العذارى ثم طوى حياته سريرا وبعثر عمره الوانا على القماش وغادر من غير ان يترك عنوانا.
»زعل« كان هو العنوان، خلف السكون وقبل العاصفة، على الحافة بين العتمة والشعاع الاول.
***
يدفعك الموت الى مواقف عصبية بعضها غير منطقي او غير معقول، ومعظمها طفولي يتراوح بين ادعاء عدم التصديق او التجاهل او رفض الاعتراف بالواقع وكأن لك في ذلك ا لقرار.
ولكل منا الموت الذي يعنيه او يمسه مباشرة.
في كل يوم يتوارى من حياتنا الالاف ممن لا تعرف، ولا نتأثر كثيرا لغيابهم، لانهم كانوا في مدار اخر، لا صلة بهم، ولا عاطفة تشدنا اليهم، لا ذكريات مشتركة فرحا او الما او سرا صغيرا نطوي عليه نايا الصدور.
فجأة نتحقق مناموت اقرب الينا مما نتصور، واننا باشخاصنا واهلنا واصدقائنا ومعارفنا على لائحته ولسنا خارجه، وان تجاهله لنا لا يعني انه قد نسينا او استثنانا او ميزنا عن سائر خلق الله الذين من التراب جاؤوا والى التراب سيعودون.
فجأة يغمرنا ويعانقنا بشدة وتلفحنا انفاسه الباردة فنستكين كما الدجاجةالمبللة.
فجأة، تمشي فاذا انت في ركابه، تتوقف فتحس به يعتلي كتفيك ويكمن في ظلك، وقد يداعبك بزلة قدم، او تعثر، او بغص في الحلق وبشكة فيالصدر او بضيق في التنفس، ثم يتركك ويمضي ساخرا من دون ان تطمئن الى انه قد ابتعد عنك بما يكفي لكي يهدأ روعك،
تُطبل المقدمة لتهرب من الواقعة والاسم…
تُفلسف الامر لتبرر حزنك او لتشرك معك فيه الاخرين، لكن الحقيقة البسيطة ان صديق الناس جميا، وان الفنان الذي روحه اكثر حضورا من جسده وصمته اعظم دويا من ثرثرة الاخرين، وشفافيته تكاد تخترق ليالي الدهور جميعا.
القيقة البسيطة ان زعل سلوم قد تلاشى، وانه قد احرق رماده بيديه حتى لم يتبق منه بعد الرحيل الا ما كان قبله: روحه النبيلة.
عاش زعل سلوم عمره وهو يحاول؛ حاول ان يقول بالرسم شعرا، وحاول ان يقول بالصمت ما تعجز عنه الفرشاة والاوان، وحاولان يقول بالاصغاء اكثر مما يقول المغني.
لم ينتج زعل بنفسه كثيرا، لكن لولاه لما انتج كثيرون.
لولاه لما اكتسب عزف »البدوي« كل تلك الرقة، لان »زعل« شكل له الناقد والمدرب والجمهور.
ولولاه لتوقف العديد من الفنانين التشكيليين عن الابداع، لانه امدهم بزخم من روحه المعنوية مكنهم ن التغلب على الصعوبةوعلى الاهمال.
لولاه لكان كل من اصدقائه »اقل« انساني مما هو عليه الان: اقل قدرة على الحب.
كان زعل سلوم يغريك بالحب، يدفعك اليه دفعا.
وفي صومعته المعلقة في قمة الدرجة المعتم الطويل كان العشاق وحدهم يصلون، ويتواصلون، ويتزودون بالقوة لمواجهة الاحقاد والضغائن وعواصف الكراهية والغيرة.
ظل يعطي ويعطي حتى اضمحل، ولما لم يتبق لديه ما يعطيه اختفى. لعله ذهب للتزود.
الحب اقل اليوم، في عالم الناس الطيبين، الناس البسطاء الذينيعيشون بغيرهم ولغيرهم.
نقص من الحب »زعل«.
الحب، في حداد الان، اما المحبون فقد اضاعوا العنوان الذي كان يلمهم، ويمنحهم القدرة على »احتلال« العالم.
ناصر 56: الحاكم أم البصل؟
ذهبنا الى حضور »ناصر 56« فوجدنا ف انتظارنا »احمد زكي 96«.
ولقد ذهبنا من باب الفضول وانعاش الذكريات القديمة، ومحاولة تحديد نقاط التقاطع بينها وبين الآمال الوليدة في التغيير، اكثر منا لاكتشاف مدى التقدم في صناعة السينما المصرية.
كان الخوف من هذ التجربة هو الاقوى ونحن في الطريق الى الصالة.
وكانت الصدمة او الخيبة هي الاقوى ونحن في طريق العودة.
ومع التقدير، بداية، لمجرد التفكير بتلك الحقبة المجيدة واستعادتها، وللشجاعة في انتاج فيلم »مصري« عنها، الا ان الاختيار كان هو بحد ذاته الصعوبة وكان هوالتحدي الخطر والامتحان القاسي لهذه التجربة.
انها لحظة شروق شمس جديدة في تاريخ العالم.
انها بداية عصر الشعوب الذي، مع الاسف، لم تعمر اندفاعته طويلا، فانتكس بأسرع مما كن مقدرا، ربما لان المهمات اتي كانت تنتظره كانت اثقل من القدرات والامكانات المتاحة للقيام بها.
ومن الصعب، بل م المستحيل، ان تستعاد الاجواء التي استولدتها المواجهة الرائعة بين قوىالثورة او التغيير الوليدة آنذاك، وبين قوى عالم الاستعمار القديم، وهي المواجهة التي انهت ذلك العالم من دون ان تنجح تماما في تحويل آمال جيلها الى وقائع صلبةتصلح قاعدة لبناء عالم الشعوب.
كان الثوار في حاجة الى مزيدمن العافية، من العلم، من الكفاءة، من الخبرة، من الايمان بالانسان ككل، اي »هو« و»حقوقه« وابرزها حقه في الحرية.
وكان الثوار في حاجة الى مزيد من الشجاعة.
وانها لمفارقة ملفتة ان يكون الثوار على ذلك القدر العظيم من الشجاعة في مواجهة »الخارج« باساطيله وعسكره وقدراته الهائلة، ثم يخافون كل ذلك الخوف من مواطنهم في الداخل، وهو الضعيف بامكاناته، واذي اعطاهم كل عناصر القوة التي تلزمهم: الروح المعنوية والارادة واستعداده لأن يجوع اكثر ولأن يتسامح مع خطائهم ومع خططهم التجريبية.
ان يريد فقط ان يكون معهم، الى جانبهم، لكنهم اعتبروه فيهم فأبعدوه.
نعود الى الفيلم…
لكأن كل شيء فيه حرر على عجل: القصة اساسا، والسيناريو، والاخراج، من ثم توزيع الادوار والتمثيل.
هرب الفيلم من الوثائقيةفضعفت الحبكة، اذ نقصت الشحنة النفسيةالتي تفرض ذاتها عل ىتلك الحقبة، فلا تستوي الا بها.
صار اقرب الى محاولة»التشخيص« منه الى »التجسيد«، وغاب عنه البعد التارخي، وغلبت الانتقائية على المواقف والشخصيات فجاءت مبتسرة، مرتجلة، ومهزوزة احيانا، فضربت السياق وضيعت من عاش تلك المرحلة بين المجتزأ الذ يراه والمكتمل ببهاء نادر المثال الذي يحيا في وجدانه.
لم تحضر لا شخصية الفرد البطل، ولا الشعب البطل.
كان »الحاكم« هو الطاغي. وكان الجمهور هامشيا، مجرد اكف تصفق، خصوصا وان الفيلم اختتم بصورةالهجوم العسكري على مصر، وغيّب المواجهة الشاملة التي خاضها المصريون والكثير الكثير من اخوانهم العرب.
في اي حال، لم يكن للعرب اي اثر في فيلم عن تلك اللحظة التي استولدت الامة بكامل عناصرها واستحضرتها كما لم تحضر في اي يوم، والتي يمكن بحق اعتبارها المدخل الشرعي لقيام اول دولة للوحدة العربية، في التاريخ الحديث، بعد سنة ونصف فقط من هزيمة العدوان الثلاثي.
حتى جمال عبد الناصر كان باهت الحضور… وعلى سبيل المثال: ليس منطقيا ان يعود »الزوج« من رحلة في الخارج ثم يصافح زوجته وتصافحه وكأنهما صديقان التقيا ف يمقهى مصادفة بعد انقطاع قصير… وليس منطقيا ان يجيء والد جمال عبد الناصر فلا يقبل يده او يهم بتقبيلها، او يقبله عل ىخده مثلا.
وبغض النظر عن النهاياتالتي آل اليها اعضاءمجلس قيادة الثورة، فغير معقول ان يكونوا شلة من الضعفاء والانهزاميين والثانويين جدا والعصابيين. ان مصر تحفظ لبعضهم ادوارا مجيدة لعبوها الى جانب عبد الناصر.
لقد غلبت الانتقائية على كتابة السيناريو، كما غلبت الحرفية على الاخراج فضاع الجو المهيب للانجاز التاريخي، كما ان اللجوء الى ممثلين محترفين سبق للجمهور ان رآهم في ادوار متعددة (فيها التهريب والبلطجة وفيها التهريج والخسة والوحشية) هز »المناخ النفسي« لهذه الاستعادة المبتسرة لواحدة من امجد اللحظات في تاريخ مصر والامة.
بقي ان المابدرة كانت شجاعة، وتستحق اتحية،
لكن تاريخنا يستحق اكثر، وذاكرتنا في حاجة الى انعاش اقوى.
جاكسون التونسي
نتمنى ان يكون اخواننا الفقراء في تونس قد استمدوا شيئا من السعادة المرتجاة من خلال وجود مايكل جاكسون في بلادهم الخضراء.
ارض الطرب والفن، تونس الخضراء، لم يذهب اليها مطرب او مطربة الا وعادمذهولا بالجمهور المحب، الذي يبدو وكأنه قد احترف الطرب وتفرغ للسمع والنشوة.
الأوصان تغترب.
في السابق كان الحكام وحدهم »غرباء« او »متغربين«
هل اغتربت الشعوب ايضا.
وهل تقرأ رحلة جاكسون التونسية في الفن فقط وخارج السياسة، ام لا بد ان ينظر اليها من داخل السياسة؟!
لعل جاكسون هو الان مطلق الاحلام بالتغيير، طالما قد فشلت العقائد والاحزاب، ومن قبلها الانظمة بطبيعة الحال.
الى متى سوف تستطيل رحلةالهرب من الواقع؟!
عشتم ومات لبنان
يتقاسم اهل الحكم الاعلام ف يجملة مايتقاسمون من مصالح ومنافع.
تثورالضجة…
يعمد اهل الحكم الى الحيلة التقليدية؛ يحصنون تقاسم الحصص بمتقضيات التوازن الطائفي! هذه حصة السنّة، تلك حصةالموارنة، والمرجأة حصة الشيعة، والملعلعة حصة الارثوذكس.
لا ينتظر رجال الدين اكثر من هذه الاشارة: ينزلون الى الميدان بمنطق »اذا حضر الاصيل لا تتبقى حاجة الى الوكيل«.
يموت الاعلام.
يموت الواطن والمواطن.
تعيش الطائفية.
من اين يأتون بالشجاعة على التزوير ليهتفوا في ختام كل خطاب: عشتم وعاش لبنان!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
للمحب عيون مختلفة. انه يرى ما لا نراه نحن، ومهما حاولنا فلن ينظر الا بعينيه اللتين غالبا ما تتعاميان عما نراه.
ان قلب المحب في عينه… لا هو يستطيع ان يعيرك قلبه، ولا هو يقبل ان تعيره عينيك، فهل نلومه على انه لا يرى بوضوح! هل اوضح من هذاالعذر لمن يرى ما لا يرى!
آخر الكلام
متى يلقي الحب السلاح؟!
تمتد المسافة بيننا فينمو في صدري الخوف منك.
متى نكف عن تعطيل الحب بالمحاسبة المفتوحة؟!
متى يبدأ حوارنا المرتجى: اثنان يسعيان الى اكتمال لا خصمان يحاول كل منهما تأكيد ذاته بالغاء الآخر؟
والمعضلة ان كل محاولة للالغاء تمكّن وجود الآخر ولا تضعفه.
متى يرتوي الحب فيلقي السلاح ويزهر العمر الأعجف؟
مثل نجمتين
تلتقيان فتشع السعادة في سمائنا البعيدة.
فنكاد نسمع النجوى والتشاكي، وايضا القهقهات التي تعيدكما طفلين وتبعث الدفء في الآمال المعلقة على جدار الانتظار.