بكائيات الجمهور المكسور بالحلم المسروق ..
لا يخاف السلطان من الأحلام. إنه يخاف من الحالمين.
الأحلام خدر لذيذ يدغدغ المهج خلال إجازة العقل في ليل النوم.
والسلطان يحب الخدر والدغدغة والإجازات والنوم وأطايب الليل، ولذلك فهو ليس ضد الأحلام، وإن خص نفسه بأمتعها، لكنه لا يريد أن يتحقق منها إلا ما ينعشه، ولا بأس إن ذهب بعضها إلى إغفاءة البائسين فوهبتهم وهم السعادة!
أما إذا استيقظ الحالمون وامتشقوا أحلامهم رايات، ومشوا لتحقيقها فلسوف يجدون عسس السلطان في كل مكان، يصادرون الرايات والخطى والطريق ويسدلون على الناس عتمة جوفاء غبشاء تمنع الرؤية وتعطل الخيال وتمتد لو قدروا إلى نهاية الزمان!
* * *
المسرح مثالي للمناسبة الهابطة من سماء اصطياد العاطفة بالشطارة التجارية والأسماء اللامعة،
قلب مفرغ من سكانه الأصليين لمدينة أُخرجت بقوة السلاح من دورها ومن موقعها، واغتيل بعد الأحياء من أهلها شهداؤها مجددا، كما اغتيلت ذاكرتها، فصارت »عقارا« يباع بكل تراثه بالمزاد العلني لكل راغب في شراء المساحات الفضاء أو الفضاء ذاته!
لا بأس من انتظار الليل، فالحلم الذي يُراد بيعه هنا يجب أن يظل مفصولاً عن الناس، عن أهله المفترضين، بالفراغ.
سيأتي االناس، قطعاً سيجيئون من كل فج عميق.
ستدلق ضواحي البؤس سكانها الفقراء الذين لا تتسع غرفهم الضيقة والمتهالكة الأثاث، لأحلامهم المستولدة من ذكريات آبائهم والأمهات،
سيتهاطل البشر مطر من الأرياف والمدن المريفة والقرى التي وصلها »السيلولير« من قبل أن تصلها المياه أو المدرسة، ودخلتها »الفضائيات« العربية (بالاشتراك الرخيص) من قبل أن يدخلها المستوصف أو الزفت لطرقاتها،
سيجيئون طلباً لساعات من الإبحار مع تمنياتهم الكسيحة!
لم يتبق من الزمن الجميل إلا الصورة، وقد كان ممنوعاً رفعها إلى عهد قريب.. أما وقد رُفعت فلا بد من حمايتها بالأهداب وذوق القلوب.
جاء الناس فانكشف الحلم المصروع: لا هم فيه ولا هو منهم، والتزييف فاقع، حتى من قبل أن يلعلع »مجوز عبود ليرقص أم عيون السود«!
انكشف المستور في الدقيقة الأولى، فلا الجمهور جاء »ليدبك« ولا أهل الفن جاءوا لإنعاش الوجدان، ولا المنتج جاء باسم الثورة ولا القناة التلفزيونية احتكرت نقل الحفلة تدليلاً على إيمان مستجد عند إدارتها بأهداف قضى أهل من دونها وتلبثت تنتظر من يكمل المشوار.
يحب العرب البكاء. يتعشقونه.
يعيشون في قلب الكارثة.. وقلما »يناضلون« لمغادرتها.
»كل أرض كربلاء، كل يوم عاشوراء« ليس شعاراً »شيعياً«. لقد غدا طقساً عربياً. اللهم اجعله خيراً! يا ساتر! اللهم اننا لا نسألك دفع القضاء ولكن اللطف فيه! اللهم اعطنا خير هذا الضحك!
العين التي ترف منذرة بكارثة آتية،
الهرة التي تموء فتثير ذكريات مأساة سابقة وقابلة للتجدد الخ..
البكاء استثمار مريح!
املأ الشاشة بصور الجنازات والقتلى، ضحايا العنف »المجهول«، وارسل معها لحنا جنائزيا اصطنع على عجل، بالاستعارة أو بالاقتباس أو بالسرقة الصريحة، أو بالعودة إلى التراث الكربلائي الغني،
العدو المنتصر علينا أبداً بلا إسم، وجرائمه تروى كفصول في ملحمة بطولية تحققت بنتيجتها أحلامه هو، وكان لا بد أن يسقط أولئك الذين اعترضوا طريقه ضحايا!
العربي ضحية بلا قضية، يسقط مضرجاً بدمائه من دون أن ترتبط الواقعة بالغناء الذي تهوم كلماته المركبة في سديم بلا هوية،
ضحايا يتساقطون، كالذباب، بينما ترتفع أصوات الندابين والنائحات بتعابير شاكية، متظلمة، ومستسلمة إلى قدرها الذي لا بد أن ينقلب بالحتمية (!!) الكامنة إلى غد أفضل!
* * *
اقتحم مئات الآلاف من الشبان الساحة التي أُخرجوا منها مع أحلامهم، وربما بسبب من أحلامهم التي كانوا يفترضون أنها في مدى أذرعتهم السمراء المفتولة والمتشوقة إلى الانجاز.
كانوا يريدون أن يتثبتوا من أنهم ما زالوا موجودين،
وكانوا يريدون أن يعيدوا التعرف إلى بعضهم البعض،
ثم كانوا يريدون أن يتأكدوا من أن أحدهم لم يذهب مع الوهم إلى حد نحر أحلامه.
كانوا يعرفون أن الصورة لن تستعيد صاحبها، ولن تعيده إليهم،
ولكنهم كانوا يريدون أن يؤكدوا لأنفسهم وللآخرين ان الصورة ليست إلا الرمز، وأنها »تلخيص« مكثف لنهج سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي عسكري، لهوية ولأهداف ولمسيرة في قلب الصعب.
ليسوا عبدة أصنام، لكنهم ليسوا سذجاً بحيث يساقون بالخديعة إلى الاستسلام!
مأساتهم ليست في الوقائع التي يتشكل منها »الكابوس«، ولكنها في أنهم بلا قيادة… والجمهور وحش بلا رأس، إذا غابت القيادة وغاب البرنامج واغتيلت الحرية وأسدل ليل الصمت.
مأساتهم في أنهم يهربون من الحاضر الذي يعرفونه حتى الوضع، إلى ماض لم يصلهم منه إلا نتف مشوهة ومجتزأة، ولكنها تبقى مصدراً للأمل أكثر من شبح المستقبل المتربص بهم!
إنهم يبحثون عن أنفسهم فلا يتلاقون إلا عبر الصورة، أو الأغنية الممنوعة التي خلدت الانجاز وبقيت علامات تشير إلى الطريق الصح.
يريدون أن يستوثقوا من أنهم أكبر وأقوى وأعظم وعياً من الحلم الذي يحاول تجار العواطف أن يشتروهم به.
* * *
أعظم إنجاز للحلم العربي المموسق والمغنى والمسوّق بنجاح منقطع النظير انه قد أعاد الاعتبار إلى الأحلام الأصلية.
قال الناس: هذا ليس حلمنا! حلمنا نقيض هذا بالضبط!
قال الناس: لعله حلم عدونا أن نكون دائماً الضحية ولا قضية! أما حلمنا فمرتبط بأرضنا، بحقوقنا كبشر، بحرياتنا، بخبزنا، بالعدالة، بالمساواة وتكافؤ الفرص.
قال الناس: لم يعد ثمة مجال للانفصال.. نحن نصنع أحلامنا، ولا نذهب إلى النوم لتأتينا.
.. وحين نملأ الشوارع والساحات بالدوي المهيب للشعار الصحيح، نكون قد مشينا الخطوة الأولى على طريق الألف ميل عائدين إلى أنفسنا، وعندها تنبض الصورة وتنطق ونستعيد أصواتنا والمعنى: أيها الأخوة المواطنون.. سنقاتل، سنقاتل، سنقاتل!
وقال الناس: تولد الأحلام من رحم المقاومة!
وقال الناس: لكي تولد أحلامنا فلا بد من اقتلاع الخطأ والفساد والتزوير!
وقال الناس: لكي نعيش أحلامنا فلا بدّ من أن نواجه القمع حتى يسقط ويندثر!
وقال الناس: أحلامنا ليست للبيع، وليست مقدمات موسيقية للرقص، وليست »مجالس عزاء«، وليس »مزة« للسكارى الذين لا ينتشون إلا بالعويل!
وقال الناس: سنحمي الصورة. لم تعد صورته. إنها الآن صورتنا.
* * *
الساحات المهجورة، الشوارع الفارغة، الكلمات التي تنتظر المعنى، الزنود السمراء الحاملة الرايات، كلها تنتظر من يقول: الأمر لي، إلى الأمام سر!
والقيادة لا تأتي من الأحلام، بل هي تجعل الناس قادرين على إنتاج أحلامهم وتحويلها إلى إنجازات.
ثرثرة رجالية
تمتلئ الشوارع بالنساء!
حيثما التفت تراهن: فتيات يحاولن بالكعب العالي أن يرتفعن ويتكابرن عمراً، أو سيدات وقورات يحاولن بثياب المراهقة أن يتصاغرن لعلهن يستعدن دفء العيون تتابعهن بشيء من الشبق!
تزدحم الشوارع بأشياء النساء.
نادراً ما تلتقي امرأة، لكن ليس أكثر من النساء المبرقشات أو المهملات، المتصابيات أو المتعجلات الإعلان عن بلوغهن، مدعيات الفقر بالملابس الغالية، أو مدعيات الغنى بالكماليات اللامعة،
تكون الفتاة طبيعية في ملبسها وفي زينتها وفي حركتها، ثم يبدأ التحريض: أظهري أنوثتك! كوني امرأة! كيف سيلتفت إليك الرجال وأنت تصرين على مظهر الصبي هذا؟!
من الشعر إلى الكاحل!
تجوس يد التزويق والتجميل والتزوير في مختلف أنحاء الجسد فتغيّر المعالم جميعاً، تضيف هنا أو تحذف هناك: الشعر، الرموش، الأهداب، الحواجب، ثم العدسات اللاصقة التي تبدّل لون العيون الأصلي إلى المرغوب، تقويم الأنف، تقويم الأسنان، تكثيف الشفاه بحيث تغدو ممطوطة تتقدم الوجه منفصلة عنه ومشوهة باقي ملامحه، هبوطاً إلى الصدر وأنواع الحمالات، وانحداراً مع قطع الغيار التي قد تحول الفجوات إلى هضاب، وقد تكسر حدة الارتفاعات أو الاستدارات فتعطي للجسد تناسقاً مستعاراً يسقط عند أول خطوة.
لكم سيتعب ذلك الباحث عن امرأة في هذا الكوم من المبتكرات النسائية؟!
مع ذلك تقول بعض النساء لبعضهن: وأين الرجال؟!
الصور الأولى للموضة الجديدة إعلان صريح عن انقراض »المرأة«… في طوفان من النساء المتشابهات اللواتي يظهرن كل ما خفي للاعلان عن »امرأة« لو كانت موجودة لما احتاجت إلى كل هذا العري،
المرأة السلعة تكاد تقضي على أجمل ما في الوجود.
ثم، كيف يلتقي »الضدان« في زمن حقوق الإنسان،
إذا كانت المرأة سلعة فماذا يمكن أن يقال عن الرجل الذي لا يكتمل إلا بامرأة، ولا يصبح عظيماً إلا إذا كانت خلفه لا في جيبه!
تهويمات
} قالت المرأة لمرآتها: سأمنحك جمالي!
قالت المرآة: لا تعطينني إلا غرورك، وهو أيضاً مني!
} قالت المرأة: أنت زمني. لا تَغِبْ طويلاً، خارجك العدم.
قال الرجل: إنما أسافر منك إليك، أنت مرفأي..
قالت المرأة: بل أنا بحرك، هيا خض في عبابي حتى يتعب الزمن فينام فينا!
} تنطوين داخل الصوت ثم تقطرين ندى..
ظمأي صحراوي… أطلبك مطراً، مطراً، مطراً!
} تطلق عيناك الوعد، وتحاولين من بعد سحب الوعد بموعد جديد لوعد جديد.
لا أطيق عذاب التقلب بين الوعدين، فاغلقي عينيك عني أو عليّ… بل عليّ، عليّ، يا ما أُحيلى عتمة ما بين الجفنين!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب هو الشعر. قبل أن التقي حبيبي كانت لغتي حطباً يابساً، وكانت المفردات معدودة، أنطقها آلياً وأحس بوقعها سمجاً. في اللقاء الأول وجدت نفسي أنطلق متحدثاً بعبارات جديدة على سمعي.. اكتشفت في نفسي الشاعر. الحب ينطق العيي. الآن أُنطق الكومبيوتر شعراً! إنني أجلس إليه فترتسم ملامح وجه حبيبي على شاشته، وأنطلق متوغلاً في دنيا العلم والمعرفة، ليزيد فرح حبيبي، وليشعر بأنني أضيف إليه ولا أفقره بأن أعيش على علمه وحده.
حبيبي، لقد فتح أمامي أبواب البهجة والمعرفة والدهشة جميعاً. الجنة بلا حب قصر مهجور!