أفلحت الصهوينة اليهودية في جعل نفسها نواة الضمير الأميركي. لم يستطع العرب ذلك. وهم لا يريدون ذلك لأن عروبتهم وجود لا يمكن أن يكون رداء لغيره.
لا غرابة في ما أنجزه اليهود إلا لمن يرى الفارق في الأعداد بين العرب والإسرائيليين. لكن الغرابة تزول عند المقارنة بين فلسطين وإسرائيل عدداً وعدة. وأفدح وجوه الغرابة هي أن تكون الولايات المتحدة وسيطاً، وهي في الحقيقة طرف؛ علماً بأن الصهيونية الغربية المسيحية سابقة في الزمن على الصهيونية اليهودية بنصف قرن. فقد انعقد المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول في منتصف القرن التاسع عشر، وانعقد المؤتمر الصهيوني اليهودي في آخر القرن التاسع عشر، أي بعد الأول بنصف قرن.
صحيحٌ أن إسرائيل جيش يملك مجتمعاً، لكن المجتمع الإسرائيلي ليس قليل التماسك والقوة والإبداع، وهذا ما لا تتمتّع به المجتمعات العربية، أو بالأحرى هي محرومة منه. إسرائيل مجتمع مفتوح والمجتمعات العربية مغلقة، ينخر عظمها ما أحدثه الاستبداد والتبعية. التبعية استخدمتها اسرائيل لمصلحتها، بينما هي عند العرب قيد يجرهم وراء دول امبريالية تربطها بإسرائيل أواصر الود، وعداء قديماً للعرب اصطنعه الغرب. في حين أن الدول العربية ظلت تربطها علاقات تبعية بالدول الامبريالية التي حكمتها قبل الاستقلال، بينما إسرائيل جزء من الغرب، بخاصة الأميركي، وحكامها يعرفون أن استمرار دولتهم مرهون بالبقاء مرتبطين بالدول الامبريالية الأقوى: بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة. وهذا ليس الفرق الوحيد. ففي حين أن الدولة الإسرائيلية تستخدم علاقاتها بالغرب الامبريالي لصالح جيشها ومجتمعه، فإن الأنظمة العربية تخفي تبعيتها، وتستخدم ما لديها ضد مجتمعاتها. وهذا هو مصدر الاستبداد، وإن يكن المجتمع مقموعاً فينغلق على نفسه.
وما حكى عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول شعب فلسطين من كلام سياسي وعنصري مهين اعتبر فيه الشعب العربي الفلسطيني قطيعاً يساق، هو في الوقت نفسه نظرة كل حكم استبدادي عربي إلى شعبه. وإسرائيل مستمرة بقوة الإرادة والامبريالية. أما العرب، بما فيهم شعب فلسطين، فإن استمرارهم بقوة التاريخ، والتاريخ لا يرحم: الحق فيه وجهة نظر، والقوة العسكرية والثقافية والمعرفة العلمية فيه مصدر القرار. للعرب حق لا يستطيعون حمايته أو فرض مفاعيله، وللغرب الامبريالي، ومن ضمنه إسرائيل، عدوانٌ يفرض واقعاً أو وقائع تصير مع استمرارها، وبعد عقود من الزمن، عرفاً يتحول إلى “حق”، أو شبهة حق. ما كان العرب يرفضونه في أربعينيات القرن العشرين صار مطلباً، بينما تحول الغرب وإسرائيل إلى برامج أخرى غير ما كانوا يقبلون بها، ويعملون على فرضها. فالعرب انحدرت مطالبهم من التحرير إلى حل الدولتين، والآن يواجهون حروب إبادة وتهجير أو ما يسمى ترانسفير وصولاً إلى إلغاء القضية. خلال ذلك يقاوم من يقاوم من العرب بأشكال ترتد على العرب بمصائب تدعو إلى الشك بمسببيها ونواياهم وعلاقاتهم المشبوهة.
يُعاني الفكر العربي المقاوم فقراً معرفياً هائلاً، أو يريدون مقاومة شعبية لا شعب فيها. وكيف يكون الشعب شعباً وقد أكله الاستبداد والتبعية لامبريالية لا ترحم. فعندما قالت الشعوب كلمتها، وكان خطابها موحداً، إبّان ثورة العام 2011، قاومتها أنظمة الحكم. فبادرت إلى الاضطهاد والقسر، بما لم يكن مسبوقاً. وزادت على ذلك حروباً أهلية دمرت مجتمعات عملت على إزالتها، وألغت وجودها. ولم يكن مخطئاً من قال بعد زوال نظام بشار الأسد أن مهمة أي سلطة جديدة في سوريا هي قبل كل شيء إعادة تشكيل المجتمع السوري الذي صار في ظل الحكم البائد أكثر من نصفه لاجئاً إلى الخارج أو نازحاً إلى داخل آخر.
يلفت الانتباه صمت الشعوب العربية إزاء حروب إسرائيل الأخيرة لإبادة شعب فلسطين وجوارها. ذلك أنه لم تعد المجتمعات العربية شعوباً لها قوام وتتمتّع بأولويات وآليات الشعب والمجتمع والدولة. الاستبداد ألغى المجتمعات والشعوب، فصارت الدول العربية جوفاء، لا يرى فيها ترامب والفاشية المتصاعدة في الغرب وإسرائيل سوى قطعان. الشلل الذي أصيب به العرب بعد ثورة 2011، التي أشعلت العالم، وهي التي أشعلتها الشعوب العربية، هو أمر يستدعي التفكير وطرح السؤال المهم: أين الخلل؟ أهي حالة “تصلّب لويحي”؟
ما نراه ونسمعه من الديبلوماسية العربية هو مما يُرثى له. إذ كيف لديبلوماسية أن تفلح إذا لم تكن تتمتع باحترام الغير، بعد أن فقدت شرعية كياناتها في علاقاتها مع شعوبها، وأصبحت خطاباتهم مجرد عواء.
تفقد الأنظمة العربية كل مصداقية وشرعية لها إذا قبلت واستكانت إزاء حروب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني. وعند ذلك لا شيء يمنع امتدادها إلى بلدان الأنظمة ذاتها، إذ سوف تفقد ما تبقى لديها من هيبة، ويهون عليها قبول التفكيك وحروب العدوان ضد مجتمعاتها، وربما حروب الإبادة ضدهم. عندها لا يبقى لهذه الأنظمة لزوم. فهي لا تلزم بنظر الغرب الامبريالي إلا كي تكون أدوات استبداد لإخضاع شعوبها. فهي إما أن تخضع وتنفذ الأوامر الامبريالية الأميركية بالتزام تام، وإما أن ما يصيبها لا يعرفه إلا ذوو الشأن في المركز الامبريالي. وعندما قال ترامب إنه ينظر إلى غزة كمشروع عقاري، فالمعنى أن الشعوب والحكام العرب لا يهمونه. فالمهم عنده هو أرضهم، وهل ستكون ذات فائدة للرأسمال العالمي أم لا! أما الشعوب وحكام العرب، فلا فائدة تُرجى منهم إلا بمقدار ما يتبعون وينفذون الصفقات الإبراهيمية، وهي على ما فيها من إشارات دينية، مشاريع عقارية لا قيمة فيها للشعوب، والمجتمعات، ومشاعرها، وما تستبطنه في ضميرها، وما تعنيه هويتها أو هوياتها.
لا رب لأصحاب رأس المال المالي إلا المال وما يحققونه من أرباح. والدعوى على المستوى العالمي للإيمان بهذا الإله هي جوهر العولمة بنظرهم. نقول الكلام تحذيراً، لا حرصاً على الأنظمة العربية بل على مجتمعاتها. الذكاء الاصطناعي يخدم الرأسمال المالي؛ والغوص فيما حصل للعرب منذ 14 قرناً لا يفيدهم إلا مزيداً من هزيمة وتفكك وتراجع. والخطر هو على الوجود العربي. ولما كان الرأسمال المالي لا يكترث لمجتمعه في بلاده إلا كأدوات انتخابية، فهل ينتظر منه أن يكترث للمجتمعات الأخرى وحكامها إلا كأدوات استبداد، وهذا طريق الإبادة وعدم لزوم ما لا لزوم له.
الرأسمال المالي العالمي ينظر الى البشرية كمستهلكين لأشياء أو كأنهم أشياء بحد ذاتها. وإذا كانت العبودية، أي امتلاك الإنسان للإنسان، قد اختفت، فإن الرواسب الحضارية وما أدت إليه في الماضي باقية. وهي تجد في الظروف الدولية بيئة خصبة لنموها. وكم من وباء اختفى أو اعتقد العلماء بذلك ثم ظهر مجدداً في ظروف جديدة ملائمة. مع نهاية القرون الوسطى، ثم عصر النهضة، ثم عصر الأنوار، والحداثة تتجدد معها ما قبل الحداثة وما هو دفين في ثقافة الغرب الامبريالي. ولات يوم تقول فيه الأنظمة العربية “أكلت يوم أكل فيه الثور الأبيض”. وذلك عندما لا تنفع الندامة.
ومن دون أن تنحاز الأنظمة العربية الحاكمة إلى شعوبها، سوف يُقضى عليها هي وشعوبها. فقضية فلسطين ليست جوهر القضية العربية بمقدار ما هي مختبر تجارب لتقرير مصير الوجود العربي. والاتفاقات الإبراهيمية عودة للجذور لاقتلاعها إن أمكن الأمر. وما ينبغي النظر الى ترامب على أنه يمثل صعود الفاشية في الغرب وحسب، بل أنه يظهر ما استُبْطِنَ وبقي دفيناً في ضمير الغرب بفعل الحداثة التي أضيفت إلى ما سبقها، كطبقة جديدة من الوعي فوق الطبقات السابقة التي دفنت ولم تمت. فهي كالطاعون في القبور التي تعزل ضحاياها وتُدفن، وتبقى محتوية للوباء ما لم تُنبش؛ وهذا الأمر معروف في كل مناطق العالم. لضحايا الطاعون مطامر، يعود الوباء منها متى نبشت، كما يقول وليم ماكنيل في كتابه عن تاريخ الأوبئة.
النظام الرأسمالي العالمي في أزمة دائمة. وليس بالضرورة أن تؤدي الأزمات الداخلية إلى سقوطه. فهو يتجدد بفعل التجديدات التقنية، واختراع أدوات مالية جديدة، كما البيتكوين والذكاء الاصطناعي؛ والمركز الامبريالي اليوم أقوى عسكريا وتأثيراً في سياسة العالم من أية فترة سابقة. الجميع، وبخاصة الماركسيون يتكلمون عن سقوط هذا النظام، ولا نعرف كيف يكون ذلك بينما النظام يُجدّد نفسه ويزداد قوة من خلال التقنيات الجديدة. ويزداد ازدراؤه للبشرية. فإذا كان مصدر الخلق عن أصحاب الأديان هو الله، فإن العالم المالي هو ما يعتبر نفسه مصدراً جديداً للبشرية. ولا شيء يمنع من اتحاد هذا وذاك. وقد رأينا أثر ذلك في الدين السياسي عندنا. فرعون جديد كما في قصص التوراة والإنجيل والقرآن، والبحر هذه المرة أي البيئة الطبيعية طوع بنانه، أو هكذا يعتقد، فلا يكترث لتآكل البيئة الطبيعية.
يمكن اعتبار الوجود العربي ومصيره نموذجاً لعالم جديد شجاع (كما قال ألدوس هاكسلي في مطلع القرن العشرين). والتناقض الرئيسي في هذه المرحلة من الرأسمالية هو بين البشرية ورأس المال المالي؛ والوجود العربي هو محور هذا الصراع. المبالغة في اعتبار الوجود العربي ومصيره يمكن استشفافه مما يحدث في المجتمع الأميركي ذاته على يد ترامب وإيلون ماسك وأتباعهما من الذين يعتبرون المجتمع الأميركي ذاته شيئاً يعنيهم. فهم يفككونه بإلغاء دولة الرعاية وتشريد مزيد من الأميركيين، حتى الذين اقترعوا لترامب، وما عرفوا ماذا ينتظرهم على يد حليفه ايلون ماسك، الذي يحضر أدوات الهروب إلى الفضاء في حال اضطر إلى ذلك.
في هذا الصراع يكون تجديد الهوية العربية انقاذاً للبشرية، إذا أحسن العرب استخدام ذلك للقضاء على مقومات النظام الرأسمالي وخلاص البشرية منه. فالقضية العربية ليست قضية العرب وحسب بل هي قضية البشرية وانقاذها. وليس ما يؤكد الفلاح في ذلك. والهوية العربية بتجديدها لا بدّ أن تكون مشروعاً إنسانياً أممياً. وليس ما يؤكد فلاح ذلك أيضاً. إذ أن الوعي العربي السائد تسيطر عليه أصولية الإسلام التي ما تجاوزت كونها أداة لمن يحكم العالم. وفلسطين شاهدة على ذلك بما في ذلك مشاهد تسليم الرهائن والأسرى في قطاع غزة.