كل بضع سنوات يكتشف اللبنانيون، ممثلين بقياداتهم السياسية، ومرجعياتهم الدينية، بالاستطراد، أنهم مختلفون على كل شيء بحيث تكاد تنعدم في ما بينهم الروابط التقليدية كافة: تسقط القربى وصلات النسب التي كثيراً ما تتجاوز الطوائف والمذاهب، ولا تستبقي وحدة الأرض صورة الوطن الموحَّد والموحِّد، وتتهاوى الأهداف والمصالح المشتركة، ولا تفيد الهوية أو حتى اللغة في تأكيد ما لا حاجة إلى تأكيده.
ثم، فجأة وبغير سابق إنذار يستعيد هؤلاء اللبنانيون وعيهم فيعودون إلى حقائق حياتهم، ولكن بعد أن يهدروا زمناً ثميناً وآمالاً غوالي لأبنائهم الذين يذهبون إلى بلاد تفيد من كفاءاتهم فيتخذونها أوطاناً بديلة، وبعد أن يفقدوا فرصاً للتقدم كانت في مدى الذراع، واستقراراً يفتقدونه غالباً ويفتقدون معه الشعور بالأمان.
وبين الاكتشاف المفاجئ للخلاف المكين والشامل وبين عودة الوعي بحقيقة وحدة المصير تتسع المسافة لكي تدخل الدول فتتدخل في إعادة صياغة العلاقة بين اللبنانيين جاعلة من نفسها الحَكَم النزيه والمرجع الصالح لهم جميعاً ولكن كطوائف ومذاهب وملل ونحل وليس كشعب واحد موحد بأهدافه ومصالحه، بأمانيه الوطنية وأسباب حياته ومعاشه اليومي.
وها هو لبنان الصغير بمساحته يعج الآن بالدول المختلفة الأعلام المتضاربة المصالح المتناقضة الأغراض، وإن وحّدت بينها التسوية التي حفظت للعسكرية الإسرائيلية ماء وجهها بالقرار ,1701 ولو على حساب الدم في لبنان ومعه كلفة ما دمرته الآلة الحربية الإسرائيلية بالقنابل الأميركية والتسهيلات البريطانية والتواطؤات الغربية.. والعربية.
ربما لهذا لم يجرؤ الرئيس نبيه بري على إطلاق الدعوة لاستئناف الحوار الوطني ، وجعلها دعوة لأقطابه إياهم إلى التلاقي والتشاور… والاتفاق على تنظيم الخلاف؟!
الحوار في لبنان مغلق للتصليحات..
أما في إسرائيل فقد اختلفت قياداتها على الحرب، بمبرراتها ونتائجها: تشاتموا وتنابزوا بالألقاب وكشفوا فضائح بعضهم البعض المالية منها والجنسية، وشكّلوا لجان تحقيق عسكرية للمساءلة والمحاسبة عن أسباب الفشل العسكري والعجز عن تحقيق النصر في معركة غير متكافئة القوى… لكنهم، مع ذلك لم يقاطع بعضهم بعضاً، ولم يخوِّن أحد منهم أحداً، بل لجأوا إلى مؤسساتهم للمحاسبة.
ومع أن حكومة الفشل الإسرائيلي تحظى بأكثرية عددية في الكنيست، فها هو رئيسها يطلب التعديل، ويضم بعض خصومه وخصوم شركائه فيها لكي يعزز القوة التمثيلية لهذه الحكومة في مواجهة المسؤوليات الجسام التي تنتظرها، وأخطرها التعويض عن الفشل العسكري بتدعيم الحكم… بمعارضين يختلفون مع أكثريته المركبة عقائدياً !
ليس العدو هو المثال ، لكن تجربته هذه تكشف بعدنا عن المعالجة الجدية لحالتنا في لبنان، التي من حقنا أن نعتبرها النقيض لحالة إسرائيل: ففشله في حربه علينا فوز لنا إن نحن تقصّدنا تجنب كلمة نصر ، حتى لا تتجرح كرامة بعض المتعيشين من الهزائم أو الانتكاسات التي قد تصيب الوطن ومواطنيه.
إن اضطرار نبيه بري لأن يدعو من موقعه كرئيس للمجلس النيابي مرة إلى الحوار ثم مرة ثانية إلى التشاور يعني، في جملة ما يعنيه، أن الأمور المطروحة للبحث ومن ثم للقرار، أخطر من أن يستطيع أن يناقشها فيحسم في أمرها المجلس النيابي المشروخ إلى أكثرية غير مؤهلة للحسم برغم شرعية تمثيلها لجمهور عريض، و أقلية فعالة وذات حضور شعبي كثيف ولكنها قادرة على التعطيل (في ظل الخصومة) وليست قادرة أن تقرّر بمعزل عن الأكثرية..
مع ذلك فإن ثمة من يصر على التمترس وراء هذه الأكثرية التي ثبت أنها لا تكفي منفردة للبت في قضايا مصيرية كالمطروحة على اللبنانيين، في هذه اللحظة.
ولو أن الأكثرية العددية أكثر تواضعاً لكانت أرجح رأياً في المسائل المصيرية.. فهي تعرف أنها لا تستطيع أن تحكم وأن تقود البلاد في ظل خلافها مع أكثرية أخرى لها في الشارع وزنها الحاسم، مع أنها في المجلس أقلية عددية!
و الحوار فعل اعتراف الكل بالكل، فمن رفضه كان كمن يلغي صحة تمثيله لمن يفترض أنه يمثلهم، لأن اللبنانيين برغم حالة التوتر والتشنج التي تجد على الدوام من يغذيها في الداخل ومن الخارج لا يريدون الذهاب، مرة أخرى، إلى الحرب الأهلية… فكيف إذا كان المخطط له (أو المرتجى؟) من طرف الخارج فتنة والعياذ بالله.
وقديماً قيل: الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها.
ويمكن القول الآن وبثقة: إن الفتنة ليست طريق الإصلاح ولا هي طريق العدالة، ولا هي بشكل خاص الطريق إلى الديموقراطية… وبالتالي فاللبنانيون ليسوا بصدد الاندفاع إليها، مهما كانت إغراءات الدول وغواياتها الشيطانية!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان