هو الآن في رام الله.. هو الآن يرى كل رام الله.
كان ضروريا ان “يرى” مريد البرغوثي مدينته، أرضه، جنته المفقودة، بعد ثلاثين دهراً من الغربة، لكي تنز جراحه فيكتب أجمل قصائده في ديوانه النثري الجديد “رأيت رام الله”. وهو دقيق في عنوانه كما في السرد المفصل للتمييز بين “العودة” وبين “الزيارة”، بين “الاستعادة” وبين “رؤيتها”، بكل ملاعب الصبا وعبق الذكريات ونشوة الشعور بالانتساب الى التراب والحجارة وشبابيك البيوت المهجورة، بعين الحنين المقيم بينما صاحب الارض »عابر« جاء بإذن موقوت ينسرب من بين أصابعه كالرمل ليرميه وهو في مسقط رأسه حيث كان دائما: في الغربة الموحشة:
“الغربة لا تكون واحدة. انها دائما غربات. غربات تجتمع على صاحبها وتغلق عليه الدائرة. يركض والدائرة تطوقه. عند الوقوع فيها يغترب المرء في أماكنه وعن اماكنه. أقصد في نفس الوقت…”.
بعد ثلاثين عاما من التشرد في أرحام ذوي القربى كما في المنافي البعيدة، وبموجب إذن خاص، وتحت لافتة “لمّ الشمل”، وفي ظل التوهم بأن بعض فلسطين قد “أعيد”، بشكل ما الى أهله، وقامت فيه “سلطتهم”، يمشي مريد البرغوثي المرحلة العسكرية: من الخارج الى الداخل… ولكنه لا يجد داخلا!
»أخيرا، ها أنا أمشي بحقيبتي الصغيرة على الجسر الذي لا يزيد طوله عن بضعة أمتار من الخشب، وثلاثين عاما من الغربة…
»كيف استطاعت هذه القطعة الخشبية الداكنة ان تقصي أمة بأكملها عن أحلامها؟! ان تمنع أجيالا بأكملها من تناول قهوتها في بيوت كانت لها؟! انني لا أشكرك أيها الجسر القليل الشأن والأمتار. لست بحراً ولست محيطاً حتى نلتمس في أهوالك الاعذار. لست سلسلة جبال تسكنها ضواري البر والغيلان، غيلان الخرافة، حتى نستدعي الغرائز والوقاية دونك…
لكنك من صنع نجارين تعساء يضعون المسامير في زوايا الشفاه والسيجارة على الأذن.. هل أخجل منك أم تخجل مني؟! أي حرج هذا؟
“انني لا أسامحك، وأنت لا تسامحني…”
يدخل مريد البرغوثي في جرحه رويداً رويدا. الأرض هي الأرض، لكن كل من فيها وكل من فوقها وكل ما عليها قد تغير بحيث يكاد ينكرها وتكاد تنكره لأنها ستفترض انه قد تنكّر لها.
ما تبقّى له فيها هو الماضي العاجز عن تجديد نفسه والامتداد داخلها ليكون الحاضر والمستقبل. وهو يحاول ان يرمم نفسه في ذاكرته: ولكن أين الذين كانوا سيكونون فيها وبها ومنها وستكون وتبقى بهم؟!
الباقون هم الذاهبون قريبا الى الموت ومعهم حسرة الذين غابوا ولم يعودوا.
الباقون هم الذين حاولوا بأجسادهم، بأنفاسهم، بصمودهم لكل أنواع العذاب ان يستبقوا لها هويتها.. ولكن موعدهم مع الرحيل قد اقترب ولم يعد من يفترض ان يعودوا، ومن عاد من اولئك جاء بلا الماضي، تقريبا.. عاد وذاكرته مشحونة بأمكنة اخرى، فلم يعد لدير غسانة ومضافتها ودار رعد ودار الصالح ومدرستها وطرقاتها الترابية مكان فسيح يصلح نقطة انطلاق لاعادة وصل ما انقطع!
العائد “يعرف ان يكون محبا آمنا ومحبوبا خائفا. انه يدنو كلما نأى وينأى كلما دنا. كل بيت هو لغيره أيضا”
حتى بيته هنا، بل لا سيما بيته هنا، هو لغيره أيضا، بل انه وفي معظم فلسطين قد غدا لغيره فقط، وصار عليه ان يتنقل هو بين بيوت لغيره، وفي صدره يتلاشى ذلك الاحساس الهادئ والثابت بأنّ له هو بالذات بيتا ليس لغيره اي “حق” فيه ولو ملك اعظم اسلحة الأرض فتكا!
…”واذا كان شاعرا كان غريبا هنا، عن أي هنا في العالم”.
من الصعب تلخيص ذلك الطوف من المشاعر والعواطف والاحزان، من اللهاث واللهفة والمرارة والوجع، من الشوق والحنين والرعب والانسحاق والخيبة، وقد اطلقه مريد البرغوثي غزيراً دافقاً يروي به مأساة شعب وأمة شاردة عن ذاتها، ومع كل تحفظه، وقراره الواعي بالابتعاد عن التقديم السياسي في هذه اللحظة تحديدا، فان ملاحظاته السريعة تكفي:
عشية الوطن الذي كان، الحلم الذي كان..
بسطور قليلة مبعثرة، بوعي، هنا وهناك، يلخص مريد البرغوثي المأساة السياسية الجديدة للفلسطيني داخل أرضه وفي ظل “سلطته”
“فالمسيء محصن،
“والجسم الأعظم من المثقفين الفلسطينيين اقترب من السلطة أكثر مما ينبغي له. ارتاح على مقاعدها، ولذ له ان يقلدها ويتماثل مع صفاتها. كثير من المؤيدين والمعارضين تشابهوا عند هذه النقطة. ما زلنا نتصرف كقبيلة… حتى المخطئ يمكن النظر اليه كضحية أيضا. الكل مهدد والكل عرضة للموت والاصابة والاهانة على الحدود وفقدان من يحب وما يحب”
“كانت الصورة قبل عودة المنظمة صورة الفدائي، البطل، الضحية. الآن ها هو الفدائي ذاته مكبلا باشتراطات اعدائه يمارس سلطته المباشرة على المواطن العادي، على الاعمام والاخوال والطلاب والدكاكين والمرور والاستثمار و…”.
عشية انتهاء الزيارة الى العمر الذي كان، الوطن الذي كان، الحلم الذي كان، انهالت على الشريد الطريد والمهدد بأن يبقى كذلك، الاسئلة:
»عبرت الجسر المحرّم علينا، وفجأة انحنيت ألملم شتاتي، كما ألمّ جهتي معطفي الى بعضهما في يوم من الصقيع والتلهف، أو كما يلملم تلميذ أوراقه التي بعثرها هواء الحقل وهو عائد من بعيد..
..”في عمان سأنتظر تصريح ولدي تميم.
“سأعود معه الى هنا. سيراها. سيراني فيها. وستسأل كل الاسئلة بعد ذلك.
“الليلة وكل من في البيت نائم، والصباح وشيك، اسأل سؤالا لم تجد لي الأيام جوابا عليه حتى هذا المساء:
“ما الذي يسلب الروح ألوانها؟!
ما الذي غير قصف الغزاة أصاب الجسد؟!”
في “العودة الى رام الله” لا ينسى مريد البرغوثي من عمره الفلسطيني احدا ولا شيئا. كل فلسطينيّاته وكل فلسطينيّه شديدي الحضور. غسان كنفاني، ناجي العلي، وطوابير الشهداء، لا سيما من قضى منهم، أما من ينتظر فبوسعه أن ينتظر أكثر.
ومع ان شقيقه “منيف” تشف ملامح الشهيد فيه حتى يكاد يكون الفلسطينيين جميعا، فان الآخرين لا يغيبون مع ذلك فان “الفلسطيني” يرتحل بعيدا عن “العربي” وأحيانا يكاد يواجهه.
واذا كانت البداية “في ظهيرة ذلك الاثنين الخامس من حزيران 1967” يوم أصابت مريد البرغوثي الغربة، فماذا عن سائر العرب؟! ولماذا التمييز بين الغربات وبين المتغربين فوق أرضهم ومن أرضهم؟!
للحظة، يبدو وكأن فلسطين قد ضاعت والعرب قد هزموا لأن مريد البرغوثي قد كتب الشعر.
حسنا ها هي نكبة اخرى في الطريق بعدما قرر مريد البرغوثي ان يكتب نثرا أجمل من الشعر بعدما رأى رام الله، ولم ير القدس!
ومثلنا مثلك يا مريد، لا فرق بين برغوثي مقيم وبرغوثي مشرد:
»والليل حولي لا يمر/ وليس حولي من يواجعني..
ويكذب (صادقا)/ من أجل روحي
أو يلوم هشاشتي حتى ألومه
أما المسافة بين أحبابي وبيني
فهي أقبح من حكومة«..
والأرض لا ترحل.
والأرض تحترف انتظار الأهل،
والبداية ان نعود الى أنفسنا فتقصر الطريق إليها.
دخان طائر في المطارات الغريبة..السفر سباق مع الخيال.
الحب أسرع من الطائرة، والشوق أقوى من التوقع.
تعبر ثلاث قارات وأنت تحاول كسر جدار قوقعتك بحثاً عن الدهشة التي غادرتك منذ زمن بعيد، وبعدما غرقت في البلادة اليومية الطاحنة.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 1 آب 1997