كنا في أوّل الشباب حين التقينا في مجلة “الأحد” مطلع الستينات منذ القرن الماضي. كان طلال سلمان الذي قدّمني إليه صاحب “دار الكفاح” التي تصدر مجلة النقيب رياض طه قد قطع مسافة على طريق الاحتراف الصحافي وتولّى سكرتارية التحرير وإدارته. وكنت في بدء خطواتي الأولى للرباب ” صاحبة الجلالة ” تاركاً علم المحاماة وحاملاً زوادة شعر.
هو عروبي مستنير ناصري التوجّه، ومتأثر بأهم مدرسة في الصحافة المصرية، وأنا يساري مصدوم شبه تائب، مفطور على الكتابة بالأسلوب الأدبي، وحالم بأن أتعلّم الكتابة السياسيّة بأسلوب الجمل القصيرة في أهم مجلة يمينيّة محافظة هي “الأيكونوميست” البريطانية. وسرعان ما انسجمنا شخصياً ومهنياً. تعلمت منه الكثير. وتعلمت معه الكثير ممّن سبقونا في المهنة. كلانا حكمت عليه ظروف المجلة بأن يكتب في كل الأبواب: السياسة، الأدب، الفن… وما سماه طلال “شطحات” وعملنا معاً في فكرة أطلقها طلال تحت عنوان “سهرة مع فنان” هي محاورة الفنانين والبحث عمّا لا يعرفه الناس عنهم وفيهم، عبر جلسات سمر في بيتهم.
لكنّ طلال أخذ بعد فترة فرصة جاءته للسفر إلى الكويت وتأسيس مجلة لصاحبها عبدالعزيز المساعيد. وتوليّت إدارة التحرير بعده قبل أن أستقيل. مستعيداً المزاج اليساري، عندما دخل أمير الكويت شريكاً مع النقيب رياض طه في “دار الكفاح”.
دار الزمان بنا، بحيث عمل كلٌّ منّا في مواقع صحافيّة مختلفة. ثمّ التقينا مجدّداً في أواخر السبعينات في مجلة “الصياد” التي تولّيت رئاسة تحريرها بعد استقالتي من صحيفة “النهار”. وفي “الصياد” كانت التجربة ثمينة لنا جميعاً – وقد ربحنا زمالة “البيك” منح الصلح. وكالعادة تألّق طلال في ثلاثة: أفكار الكاريكاتور – إجراء الأحاديث المدويّة والمثيرة مع رجال الصف الأول في السياسة، وكتابة التقارير الصحافية المملوءة بالمعلومات والخفايا الراصدة لاتجاهات الأحداث. وفي “الصياد” كان الحديث الشهير الذي أجراه طلال في ليبيا مع العقيد معمّر القذافي، والفرصة التي فتحتها زيارة ليبيا أمامه لتحقيق حلم قديم.
ذلك أنّ “السفير” تاريخ قديم في عقل طلال سلمان سبق تاريخها المدوّن على الصحيفة قبل أربعين سنة. فهو، منذ عرفته، يملك موهبة القيادة والقدرة على تجميع الناس حوله. وهو كان منذ البدء مهجوساً بالتخلّص من الواقع المفروض على المحرّرين، سواء بالنسبة إلى العيش الكريم أم بالنسبة إلى حرية التعبير عن الأفكار والمواقف السياسيّة. كان في ذهنه وأحلامه مشروع “السفير” ، بصرف النظر عن الاسم الذي لم يكن جاهزاً. مشروع الاستقلال بصحيفة يعبّر فيها عن أفكاره وإيمانه الثابت بالعروبة وتوقه إلى غد أفضل للبنان ومستقبل تستحقّة الأمة العربية، أو أقلّه المشاركة في صحيفة.
كان المشروع مغامرة حقيقية صحافياً وسياسياً ومالياً. لكنّ طلال مضى في المغامرة على طريقة النفرّي القائل :” في المخاطرة جزء من النجاة “. وهو تمكّن كالعادة من جمع كوكبة صحافيّة من اللبنانيين والمصريين والفلسطينيين كافية لإصدار صحيفة تلعب دوراً. كان يبحث عن صحيفة “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”. صحيفة تواكب المدّ القومي العربي، وتحمل بعض أفكار اليسار، وتواجه النظام الطائفي واليمين المتحكّم به من كل الطوائف. صحيفة الهم الديمقراطي وسط الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة التي ألغت الفرد والمجتمعات وكشفت بعد انهيار بعضها أنّ أقل ما صنعته هو تحويل العالم العربي إلى “لبنان مستتر” تمزّقه الصراعات المذهبيّة والإتنيّة. وصحيفة الإصرار على إبقاء الأولويّة للصراع العربي – الإسرائيلي بصفته القضيّة المركزيّة العربية.
لم تقصّر “السفير” في أن تكون دائماً “صوت الذين لا صوت لهم”. ولا هي حجبت لكونها أيضاً صوت الذين لهم أصواتٌ عالية جداً، سواء في المقاومة الفلسطينيّة أم في المقاومة الوطنية اللبنانية”. غير أنها قدّمت نموذجاً نادراً في الجمع بين الالتزام والانفتاح. فهي في وقت واحد “حزب” و “صحيفة. “حزب” يلعب دوراً في صناعة الأحداث. و”صحيفة” تحرص على مهنيّة عالية في ملاحقة الأحداث والبحث عن الأخبار لوضعها أمام القارئ. وهذه مهمة مستحيلة صارت ممكنة. فالصحف التي تنطق باسم أحزاب أو تنطلق من إيديولوجيا أو تعبّر عن مذهب، تلجأ عادة إلى إهمال الأخبار والوقائع التي لا تلائم توجّهها. لا بل تحذف وتحرّف، وأحياناً “تفبرك” أخباراً. أما “السفير” فإنها تنقل كل الصورة، وإن بدت العناوين كأنها إيديولوجيّة بالقياس على ما في النص. وإذا كان طلال سلمان متمسّكاً، عن حق وإيمان، بالعروبة ولو بقي “العربي الأخير” بين أهل المذاهب، فإنّ “السفير” هي الأولى في الحرص على معرفة الأخبار ونشرها وسط صحف “المصادر” والشعارات.
تحية محبة إلى صديقي وزميلي وأخي طلال سلمان المصِرّ على أن يبقى شاباً وأن يعيش كشابّ، ويكتب عن الحب في معزل عن حكمة الشيوخ، ويحرّضني على الاستمرار في كتابة الشعر. مبروك لـ “السفير” في عيدها الأربعين، على أمل في أن تبقى شابّة رشيقة ومالئة أيامنا البائسة بالمعرفة والحيويّة والأمل.
رفيق خوري
الطريق، 192013