في يوم واحد تلقى أهل النظام العربي ضربتين مؤلمتين ممن كانت الأمة العربية جميعاً تعتبرهم من أخلص الأصدقاء ومن ذوي القربى حتى كادوا أن يكونوا أشقاء..
فأما الضربة الأولى فقد وجهها الصينيون، وعبر الدورة الرابعة لمنتدى التعاون العربي ـ الصيني الذي انعقد في مدينة تيانجين، وشارك فيه وزراء الخارجية العرب يتقدمهم الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى..
وأما الضربة الثانية فمن الأفارقة، وتحديداً من أكثرية دول حوض النيل (إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا ومعها بوروندي والكونغو الديموقراطي) الذين تلاقوا في عنتيبي (في أوغندا)، في غياب دولتي المصب مصر والسودان، للتوقيع على اتفاق جديد لتقاسم مياه النهر العظيم، يكون بديلاً من الاتفاق ذي الطابع الدولي الموقع في العام 1959 تثبيتاً للاتفاق الأول الذي وضع في العام 1929، وحين كانت هذه الدول جميعاً خاضعة للاستعمار الغربي (بريطانيا أساساً وايطاليا وبلجيكا وفرنسا).
… ومن محاسن الصدف أن تتزامن هاتان الضربتان بينما العدو الإسرائيلي يحتفل بالذكرى الثانية والستين لإقامة «كيانه السياسي» على أرض فلسطين التي كان الشعب العربي في مختلف دياره يشارك أهلها وهم الإخوة الأشقاء إحياء ذكرى «النكبة» التي أخرجتهم من معظم بلادهم وشردتهم في أربع رياح الأرض «لاجئين» يذوي أملهم في «العودة» يوماً بعد يوم، بهمة أهل النظام العربي وتواطئهم على «قضيتهم المقدسة» بمبادرات التنازل التي ترفضها إسرائيل، مباشرة أو عبر واشنطن، لأنها تعرف أن رفضها سيجعل العرب يقدمون تنازلات جديدة حتى لا تبقى قضية ولا من يفاوضون.
بديهي والحالة هذه أن يتوقف المواطن العربي أمام هذه الوقائع الجارحة ليسأل عن الأسباب التي أدت الى مثل هذه الخسارة الفادحة في الأصدقاء الكبار كالصينيين وذوي القربى من الأفارقة، وعن المسؤولين عن التسبب فيها وحرمان الأمة العربية من بعض الأهم من عناصر قوتها على المستوى الدولي، مما يلحق الأذى البالغ بقضاياها العادلة بل وحقوقها في أرضها ومواردها الطبيعية.
كيف ولماذا تجاوز الصينيون موجبات الصداقة بتاريخها الحافل والمضيء ومعها مقتضيات توطيد علاقات التعاون الاقتصادي مع الدول العربية، وهي مؤثرة جداً في ازدهار التجارة الصينية، وتجاهلوا حتى أصول الضيافة، وتمسكوا بموقفهم المستهجن من رفض النص (الذي كان في مستوى البديهيات الى ما قبل فترة بسيطة) حول حق الفلسطينيين في «بعض» القدس، أي القسم الشرقي ـ القديم منها، كعاصمة لدولتهم العتيدة؟!
ماذا عدا مما بدا ليمكن تفسير هذا التحول في الموقف المبدئي للصين، من القضية العربية الأقدس والأخطر، فلسطين، وقد كانت في طليعة الدول غير العربية التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، واستقبلت «رئيسها» عند إنشائها الراحل أحمد الشقيري في احتفال مشهود سنة 1964، واستمعت قيادتها الى خطبه الحماسية فيها، قبل أن تتعهد له بالمساعدة، سياسياً وعسكرياً، لتعزيز قدرات المنظمة ونضال الشعب الفلسطيني من أجل إقامة دولته المستقلة على «بعض أرضه الوطنية» بعاصمتها القدس الشريف؟
ذلك من التاريخ.. لكن الحاضر يقدم شهادة أقوى تأثيراً لأنها تتجاوز العواطف والمواقف المبدئية الى الاقتصاد والمصالح وبالأرقام، ومنها:
1ـ إن التجارة الثنائية بين الصين والدول العربية قد تجاوزت المئة بليون دولار في العام الماضي، على الرغم من الأزمة المالية العالمية.. فهي قد ارتفعت من 36,4 بليون دولار الى 107,4 بلايين دولار في العام 2009.
2ـ ان الاستثمارات الصينية والعربية المباشرة قد ارتفعت من 1,1 بليون الى 5,5 بلايين دولار بين 2004 و2009
3ـ ان الصين تحتل المركز الأول في مصر من حيث نطاق الاستثمار، وعدد الشركات الصينية المسجلة في مصر بلغ 1022 شركة.
4ـ ان الصين صارت ثاني اكبر مستورد وثالث اكبر سوق للسعودية (حتى لا ننسى النفط ومشتقاته) وقد زادت التجارة الثنائية الى 41 بليون دولار اعتباراً من 2009 واتفق على زيادتها لتبلغ 60 ملياراً بحلول 2015.
5ـ ان المؤسسات الصينية تشارك حالياً في تنفيذ مئة مشروع للتنمية داخل السعودية، وان استثماراتها فيها تبلغ 11,8 بليون دولار.
ولقد دخل مشروع الاثلين، وهو الأكبر من نوعه في الصين، طور التشغيل التجاري بصورة رسمية، عشية انعقاد الدورة الرابعة لمنتدى التعاون العربي ـ الصيني في 11 أيار ـ مايو ـ 2010.
6ـ يجري العمل حالياً لإقامة منطقة حرة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي.
كل هذه المصالح والمشاريع المشتركة والتبادل التجاري بعشرات البلايين من الدولارات، ثم تمتنع الصين عن الموافقة على سطر في البيان المشترك يشير الى القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة؟!
كيف يمكن تفسير هذا الفصل القسري والنافر بين المصالح الاقتصادية والموقف السياسي؟ وكيف يقبل أهل النظام العربي ومعهم جامعتهم أن يصدر البيان المشترك خلواً من مطلبهم البديهي، ويسكتون عن هذه «الجلافة» في الموقف الرسمي الصيني، ولا يذكرون مضيفهم بأن لهم هم بدورهم موقفهم ممن يتجاهلون قضاياهم أو يسيئون إليها، لا سيما ممن كانوا في السابق أصدقاء حميمين ويتصدرون صف المطالبين بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه؟
وهل من الضروري التذكير بالنمو المطرد للعلاقات الصينية مع إسرائيل والتي تشمل مجالات حساسة جداً بالنسبة للعرب، تلامس المستوى العسكري، اذ ان الصين من أهم الدول المشترية سلاحاً من إسرائيل أبرزها الطائرات القتالية «فالكون» الى جانب رقائق الكومبيوتر وكل ما يتصل بعملية الري بالتنقيط وتتعاون معها في مجال إنتاج الطائرات الهجومية من دون طيار… والذريعة دائماً أن إسرائيل بين الدول الأكثر تقدماً في هذه المجالات.
الطريف أن إسرائيل تقدم مليار دولار بصورة قروض لمشاريع إنمائية زراعية وصحية… وواضح أن هذه القروض هي بعض فوائد الاستثمارات أو المبيعات الإسرائيلية للصين، لا سيما العسكرية منها!
[[[[[[
أما دول حوض النيل فإن موقفها من مصر والسودان أدهى وأمّر.
لقد كانت هذه الدول أقرب في صداقتها لمصر والسودان الى الإخوة، ولطالما ساندت مصر شعوب القارة عموماً، وشعوب دول حوض النيل خصوصاً، في سعيها من أجل التحرر من مستعمريها الأوروبيين والحصول على استقلالها السياسي، ثم قدمت لها ما تستطيع من المساعدة على المستوى الاقتصادي والعسكري والأمني.
لكن مصر التي تخلت عن دورها الحيوي والأساسي، عربياً وأفريقياً وفي مجمل دول عدم الانحياز، قد فقدت الكثير من نفوذها المعنوي، وغابت عن دائرة التأثير، حتى تجرأ عليها أهل الانقلابات من حكام بعض الدول الأفريقية الفقيرة، بتحريض مباشر من إسرائيل أساسا، وبتشجيع أميركي عامة، لكي «تسترد حقوقها» في مياه النيل، وهي حقوق لم تغصبها مصر أو السودان، بل هي تنالها بموجب اتفاقات دولية لا مبرر لنقضها… وإذا كان ثمة حاجة لتعديلها فباب المفاوضات مفتوح دائماً، وفي جو أخوي وضمن الحرص على مصالح الأطراف جميعاً.
لم تتقدم هذه الدول بمشروعات لاستثمار مياه النيل فتصدت القاهرة أو الخرطوم لمنعها أو عرقلتها.
ولم تخرق مصر أو السودان الاتفاق الدولي المعقود 1959، بل إن الدولتين تتمسكان به مع الاستعداد للبحث، في جو أخوي، مع الدول الشريكة في حوض النيل، في كل ما يتصل بتطوير استخدامها لحصصها من مياه النيل.
وعلى امتداد السنوات العشر الماضية كانت القاهرة والخرطوم تواصلان التفاوض مع سائر دول حوض النيل للوصول الى اتفاقات عادلة ومحققة لمصالح هذه الدول جميعاً على قاعدة الشراكة في هذا المورد الحيوي بما يخدم أهداف التقدم وتحسين شروط الحياة في الدول ذات العلاقة.
وبغض النظر عما إذا كان للاتفاق الجديد «أية قيمة قانونية بالنسبة للدول التي لم توقع عليه» أم لا، فإن التوقيع عليه يظل يمثل «محاولة للضغط من دول المنبع على دول المصب» لوضع مصر والسودان أمام الأمر الواقع.
ومعروف أن حصة دولتي المصب، تبلغان على التوالي: 55,5 مليار متر مكعب سنوياً لمصر، و18,5 مليار متر مكعب للسودان.
معروف أيضا أن دول المنبع لا تستثمر مياه النيل التي تخصها، بموجب الاتفاق، نتيجة لأسباب كثيرة، بينها عدم الاستقرار والفقر وافتقاد الخبرة، وبالتالي فالمشكلة ليست في حصصها بل في القدرة على استثمارها.
[[[[[[
يصعب توجيه السؤال الى أهل النظام العربي عن خسارة العرب أصدقاءهم التاريخيين، لا سيما في دول الجوار الأفريقي، ثم في دول عدم الانحياز، وقد كان لهم رصيد ضخم عبر إسهامهم في دعم حركات التحرر، سياسياً وعلمياً وثقافياً وربما عسكرياً في بعض الحالات، وبالخبرة حيث تحتاج تلك الدول التي أفقرتها دهور الاستعمار وتركتها نهباً لفوضى الحدود والخلافات القبلية والفقر المدقع؟!
لقد كان لمصر، على وجه التحديد، نفوذ معنوي ممتاز، وكانت الشعوب الأفريقية تتطلع الى القاهرة كعاصمة لها جميعاً، وكثير من «الكادرات» الذين تولوا مناصب قيادية من متخرّجي الجامعات في مصر أو في الجزائر أو في دمشق وبغداد.
ثم ان مصالح هذه الدول تتقاطع ـ حكماً ـ مع دول جوارها العربي، وقد يفيد الاقتصاد حيث لا تفيد السياسة.
وبديهي أن إسرائيل قد أفادت من الفراغ العربي، لا سيما بعد انكفاء مصر عن لعب دورها الذي لا بديل منه في المحيط الأفريقي، وبعد تخلي الجزائر عن طموحاتها الأفريقية، وبعد اكتفاء العقيد القذافي بالمهرجانات الفولكلورية حيث حظي بلقب ملك ملوك القبائل الأفريقية… ثم لم تبذل أية دولة عربية الجهد الكافي للتعاون مع هذه الدول حيث يمكن تحقيق فوائد اقتصادية ممتازة، فضلاً عن تبادل الدعم السياسي.
مؤخراً فقط بدأ الزحف الخليجي ـ السعودية والإمارات وقطر ـ في اتجاه أفريقيا، ولكنه اتخذ سياقاً استثمارياً مطهراً من السياسة، حتى لا تغضب إسرائيل أو تستفز الولايات المتحدة الأميركية… فالمال الذاهب الى الربح، والى مزيد من الربح، لا يعنيه كثيراً أن يواجه إلا منافسيه، وقد يشارك من هم في حكم «الخصوم» بل «الأعداء» لأهل وطنه.
وباختصار: كان العرب في أفريقيا شركاء نضال، يقدمون خبراتهم وبعض الإمكانات لهذه الشعوب المضطهدة والتي طالما نظرت الى القاهرة والجزائر وطرابلس والخرطوم كدار احتضان ودراسة وإعداد وربما دار لجوء، أو كقواعد خليفة لنضالهم من أجل التحرير والتقدم لبناء دولهم المستقلة.
أما وقد غدت ديار العرب ذاتها مخضعة للهيمنة الأجنبية، وبعضها محتل (كالعراق) نتيجة السياسات العبقرية لأهل النظام العربي وتنازلاتهم غير المحدودة لإسرائيل، فبأي حق نطالب الآخرين أن يكونوا عرباً بينما يتنصل العرب من عروبتهم؟
من يخسر نفسه، وهويته، فكيف سيحفظ أصدقاءه، وهل يحق له أن يطالبهم بما أعفى نفسه منه من واجباته الوطنية حيال شعبه وأمته؟!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية