لم يكن انسي الحاج صديقي، بل كنت احتسبه، في البدايات، خصماً بالمعنى الفكري والسياسي. كنت أرى في نهجه، بمن يجمعه، والذي سرعان ما تزايد نفوذاً وسطوة في الوسط الثقافي، تحدياً خطيراً لما نشأنا عليه من أنماط الثقافة بأثقال «المقدس» فيها. كنت اعتبر انه وسائر الذين اندفعوا «يخربون» الشعر ويبتدعون صياغة بل صياغات جديدة له وفيه إنما يخربون علينا ذاكرتنا وموروثنا الثقافي… وليس إلا في وقت متأخر، وفي ظروف غير ملائمة، حتى تلاقينا وبات كل منا يقترب من الآخر، بحذر، أول الأمر، ثم بخطوات أوسع في اتجاه أن نكون صديقين.
ولقد تأخرت حتى قبلت التحدي المضمر: أن اقرأ له بهدوء متخففا من الاتهام السياسي، متعاملاُ مع «لغته» على أنها «لغتي» وإنما بصياغة أخرى، أقنعت نفسي بأنه مختلف عني بقدر اختلاف المتنبي عن امرئ القيس، أو اختلاف أبي العلاء المعري عن الاخطلين. قلت هو مختلف، وهو متفرد كاختلاف الحطيئة وتفرده. حسنا، فلماذا العداء والمجافاة والمقاطعة.
ثم انتبهت فجأة، إلى أن هذا الاختلاف بيننا هو بعض مظاهر الاختلاف الفكري السياسي العام السائد في مرحلة «الثورة» التي عشنا بعض تجلياتها في السياسة. فخطاب جمال عبد الناصر، مثلاً، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي وما تلاه من تطورات مصيرية، فتح الباب للغة سياسية أخرى، سقطت في مواجهة التحديات اللغة الجامدة، اللغة المحنطة الموروثة منذ عقود. اللغة التي تكاد تقارب اللغو. اللغة التي تهرب من المعنى إلى مبنى يحجب المعنى أو يزينه بالتخفيف من دلالاته. اللغة المحنطة في إسار مداراة الحاكم الكلي نفاقاً أو تحايلاً على «القضية» والتهوين من شأنها مهما كانت خطورتها جسيمة – باللفظ الذي يلامس الأذن بنعومة، ويداري أن يفاجئ العقل البوليسي الذي يسمعها، حتى لا يعاقب من ينطق بها على تحقيقه ذاته بلغته.
انتبهت إلى أنني، وبشكل عفوي، استخدم لغة غير التي أخذتها عمن «علمني» «تقاليد المهنة»، وأنني أؤكد ذاتي بلغتي التي أعاد صياغتها وجداني وتدخلت فيها ثقافتي الخاصة. بل أنني استولد لغتي من داخل هذه اللغة الرائعة، هائلة الأبعاد، فسيحة الأرجاء التي بالكاد تعرفت عليها في دروسي المدرسية.
ـ 2 ـ
ثم انتبهت إلى أن «السياسة» أعمق بكثير من خطاب السلطة وكتابها الذي يأخذ الناس إلى مجافاة وعيهم، ويحبس عقولهم قهراً، ويجعل لغتهم تخون المعنى أو تزيفه وتزوره بألاعيب لفظية تقتل – أول ما تقتل – اللغة بما هي التعبير الفذ عن الفكرة البكر وعن انشغال العقل بالمعنى.
واعترف أنني، ولفترة طويلة، عاملت كتابات انسي الحاج، وسائر من ابتدعوا لعبة الشعر الحديث، على أنهم «خصوم سياسيون» لا بد من مكافحتهم حماية للعروبة وللهوية التي تشكل اللغة بارتكازها على القاعدة الدينية – أخطر أسسها.. فهؤلاء معتدون على اللغة الهوية، وبالتالي حقيقة الأمة، يشوهونها بالحذف أو الإضافة، بالابتسار أو الصياغة المبتكرة، بالأخذ عن غيرها من اللغات التي حررها طلائع المبدعين، شعراء ومفكرين ورسامين ونحاتين ومؤرخين اتعبوا عيونهم في استكشاف المطموس بالكيدية أو بالجهل أو بالتبعية استرضاء للسلطان، أجنبيا كان، لغة ودينا، أو قاهراً بالدين.
محاكمة الموهبة بالموقف السياسي
سيمر وقت طويل قبل أن انتبه الى أن المعركة مع الشعر الحديث هي معركة سياسية. وان الموقف السياسي قد تدخل في تحديد النظرة إلى «هؤلاء الذين يخربون وجدان الأمة».
انتبهت إلى أن من واجبي (فضلاً عن فضولي) أن أتعرف إلى هؤلاء، وقد عرفت بعضهم قبل «تغربه» إلى الشعر الحديث وهجره القافية وارتكابه الخطيئة الأصلية بتدمير المألوف من اللغة.
ـ 3 ـ
أخذت اقرأ بعض نتاجهم حذراً، متوجساً، والحكم المسبق في ذهني يكاد يتدخل في ذائقتي، والموقف السياسي يظلل القراءة بالاشتباه.. وطال علي الوقت قبل أن أتحرر من ذلك الكم الهائل من الاتهامات التي قُذف بها هؤلاء «الرواد» في هذا الميدان الجدي. ثم اخذ وعيي يتدخل أكثر فأكثر ليعيد التصنيف: أنهم مختلفون!. هذا صحيح. ولكن متى كان الاختلاف، فكريا وسياسيا وفي الذائقة الفنية، جريمة تصل إلى حد الخيانة العظمى؟! أو ليست لغتي بالذات مختلفة، في بعض وجوهها، عن لغة من علمني العربية؟ الم يكن بين من علموني اللغة بقواعدها ودلالاتها وإيحاءاتها ومضمراتها، خلافات واشتباكات؟
ثم… إننا قد استعدنا لغتنا بعد دهور من التشويه المقصود، والأمية المعممة بالأمر، والاغتراب عن ذاتها لان الحاكم الأجنبي لا يعرفها، بل هو يكرهها لأنه لم يستطع أن يحرر نفسه منها إلا بالهجرة إلى لغة أخرى، من غير أن يتمكن من «التحرر» منها بالكامل، بل هي استقرت في خطابه لأنها أقوى منه وأعظم رسوخاً في الوجدان، ولو كان ذلك بفضل الدين الذي حملت رسالته؟! وأين يفترق الدين عن الدنيا هنا وأين يلتقيان، خارج اللغة؟
ها هي بلاد فارس وها هم الأتراك، وها هي الشعوب الإسلامية التي لا تعرف العربية… لم تستطع، بمجموعها، أن تغادر اللغة العربية، أو أن تمحو أثارها على ألسنتهم، ولكنها أخذت اللغة الأخرى، أو بدلت حرفها، من دون أن تفهمها، ومن دون أن تدرك معاني كلماتها بالإيحاءات والدلالات الكاملة والمضمون الفعلي لما ترمي أو ترمز إليه.
ما الفرق بين هؤلاء جميعاً وبين الذين يدعون أنهم أهل اللغة وأنهم مولودون من رحمها ثم يحجرون عليها ويمنعون تفتحها ويقمعون نفحة الشعر فيها ويحجمونها بحجم مداركهم بدل أن ينطلقوا في آفاقها الرحبة ويستكشفوا بها ومعها عوالم السر وما يستولده المعنى من المبنى الذي لم يكن في أي يوم سجناً، والذي أشاد عبر القرآن الكريم وعبر المسيرة كما عبر نهج البلاغة والصادقين من المحدثين بناء شامخاً، لا سيما مع إعادة الاعتبار إلى المبدعين من شعراء الجاهلية الذين يشكلون، بما أبدعوه، نقضاً للتسمية التوصيف، بعيداً عن الدين قريباً من الوجدان.
ـ 4 ـ
عن «شعر» والسي آي إيه.
كنت اعرف ادونيس منهم. ثم بدأت التعرف، بحذر، إلى الآخرين، تسبقني إليهم الاتهامات المشككة في وطنيتهم، فضلاً عن عروبتهم، والتي صورتهم في لحظة ما – عملاء للسي آي إيه. والعمالة في الثقافة اخطر منها في السياسة، خصوصاً وان اللغة العربية تتجاوز الوطنية والقومية إلى المقدسات، فالقرآن ركن الأساس في الدين ولغته هي القاموس وهي المرجع في المبنى والمعنى والهوية.
وهكذا فقد كانت البداية صعبة ككل افتراق عن السائد، فكيف وقد اتخذت شكل الهجوم الصاعق بالرفض وتسفيه من استمروا ثابتين في نظمهم على ما بقي معتمداً منذ «الجاهلية»، مع بعض محاولات التطوير والتحديث، ومن داخل النص إلى حد كبير.
ومما زاد في تعقيد الأمور أن هذا الهجوم قد وجد من يرعاه، دوليا، ويواكبه دعائياً ومادياً، ويجمع له «الأنصار» من المتمردين على النمط السائد من الشعر، ليس في مبناه وقواعد النظم فحسب، بل في مهمته التنويرية كبشارة بمستقبل مختلف لوظيفة اللغة قبل الشعر، ولرسالة الشعر كعنوان للتمرد على السائد لغة وقواعد، والأخطر: كتجديد في الفكر يتجاوز النص الأدبي إلى المهمة التنويرية للشعر باعتباره دعوة إلى التجدد والتغيير فكريا وسياسيا.
وهكذا صدرت مجلة «شعر» التي صارت بمثابة المكتب السياسي لهذه العصبة من الشعراء والكتاب والمثقفين، الذين كان بعضهم حزبيين وعقائديين فخرجوا من أحزابهم وعلى عقائدهم واندفعوا في مغامراتهم التي تبدت «انتحارية» في شجاعة المتصدين لإيصال رسالتها إلى الجمهور المسحور بالخطاب القومي.
تلاقي في «شعر» كوكبة من المجددين بينهم الموهوب الباحث عن فرصة للتعبير عن رفضه السائد، وبينهم المتمرد على ماضيه الحزبي، وبينهم رافض الواقع السياسي والفكري السائد، وبينهم من صُنّف بأنه صاحب غرض سياسي، خصوصاً وقد تقدمت «المنظمة العالمية لحرية الثقافة» إلى تبني الحراك الجديد كتيار مختلف نصا ومضمونا ووجهة عن السائد، يتخذ شعاراً له تحطيم أصنام الماضي من آلهة الشعر وكواكبه، مختاراً من بينهم كرواد كل من «خرج على قومه» أو «خرج على دينه» أو خرج على السائد من تقاليد ومفاهيم مندفعاً في مغامراته الهادفة إلى تحطيم الماضي كشرط لبناء المستقبل.
الشعر ارض معركة بين عالمين..
صار الشعر الحديث موضوع معركة سياسية من الدرجة الأولى، وخرج عن كونه قضية ثقافية… وانشق الوسط الثقافي معسكرين: أولهما غربي التوجه ينهل من الاتجاهات الجديدة في الشعر الفرنسي خاصة وبعض المجددين من الشعراء المعروفين دوليا، والثاني متمسك بقديمه وان افترض أن التجديد يكون بالإضافة لا بالحذف، وان تساهل في القافية مزكيا موسيقى الوزن والقدرة على التقطيع من دون التهديم.
استعرت المعارك متخذة أكثر فأكثر الطابع السياسي ووصلت إلى المحاكم لا سيما بعد توجيه اتهامات إلى بعض القيمين على مجلة «شعر» بأنهم يتلقون الأموال من جهات أجنبية، وان «المنظمة العالمية لحرية الثقافة» هي إحدى واجهات المخابرات المركزية الأميركية.
بعيدا عن ساحة المعركة كان الشعر الحديث يتقدم منتصراً، خصوصا وقد نزل إلى ميدانه كبار في مجالهم أبرزهم ادونيس، ومعه يوسف الخال وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وفؤاد رفقه… كما استعيد شعراء خارج التصنيف مثل بدر شاكر السياب، ونسّبه إلى التنظيم بعض المتمردين من أهل الجاهلية و«الخوارج» وكل من رفض واقعه وخرج عن القواعد العتيقة..
المهم أننا كبرنا في السن من دون أن تتناقص الخصومة وان اتخذت أبعادا فكرية من خلال التمايز إلى حد التناقض أو التضاد أحيانا بين الهوية الوطنية القومية وبين العالمية.. بين لغة قريش والهجانة والتهجين واستعارة الصورة والدلالة والمعنى من الآخر المختلف، ليس فقط في عالمه والركائز الفكرية والثقافية لهذا العالم، وبينك أنت في عالمك الذي يكافح لاستعادة صورته الأصلية، فكرياً وثقافياً، متكئاً على اللغة (ومرجعها القرآن) كشرط للهوية، فمن مس بها أو أساء إليها كان كمن يعتدي على المقدسات، والأخطر: انه يتقصد تشويه صورة الغد، أو موقعنا في هذا الغد، أو أهليتنا لدخوله.
ـ 5 ـ
الصحافة كعدو للشعر؟!
سيمضي وقت طويل جداً قبل أن يتسنى لي اللقاء المباشر مع انسي الحاج. كان كلانا قد ازداد خبرة، وتعرف أكثر فأكثر إلى خطورة أن نعيش متخاصمين في الفاصل بين موتين، وتبين لكل منا أن خلافاتنا الفكرية واجتهاداتنا لا تمنع التلاقي والتحاور، مهما عنفت حدتها وتعددت أسبابها «الفقهية».
كنا قد بتنا على ارض الموهبة، نتحاور وقد سلم كل منا أن «الآخر» ليس عدوه، وان الاختلاف الفكري هو دليل عافية.
كنت قد عرفت انسي الحاج كاتباً، فاكتشفت أن المساحة المشتركة بيننا عريضة جداً.. فلما اضطر إلى أن يقبل رئاسة التحرير في الزميلة «النهار»، كان عليه أن يقبل معها التعامل مع الواقع وليس مع العالم المتخيل والمطموح إليه، ومع النثر الفضاح للنظام السياسي وليس مع المثل التي تستدر الشعر وتتخذه لغة وسكناً.
ـ 6 ـ
ولقد حاول انسي الحاج فنجح في أن يدخل إلى اللغة الصحافية كل ما تتيحه اللغة العربية من فنون التوريات والمضمرات والإيحاءات، وان يبتعد بها عن اللغة المهجنة، التي تكاد تكشف أن كاتبها قد ترجمها في ذهنه للتو مطمئنا إلى أن قارئه سيذهب إلى «المعنى» أو إلى «الموقف السياسي» من دون أن يتوقف طويلاً أمام الصياغات.
تلك كانت فترة حرجة في تاريخ الشاعر الذي يبتدع لغته والذي يستمد القدرة على التعبير عبر تمكنه منها، أي عبر احترامها باعتبارها صادرة من الوجدان وآخذة اليه.
كان التحدي أن يحفظ لغة شعره بعيداً عن ترهات السياسة اليومية ودلالاتها التي تخرب الذوق والوجدان ومنبت الفكرة البكر ومؤداها.
اللقاء الأول.. مع الطرب!
ذات يوم فوجئت بإنسي الحاج يطلب لقائي.
ولقد أكبرت في انسي الحاج انه قد جاء إلي، متجاوزاً حساسيات الاختلاف في الموقف السياسي والمنافسة المهنية… واحترمت حرجه، وتألمت للوجع الذي رافق إعفاءه من المسؤولية، خصوصاً وقد رافقته حملة من التقولات وأصناف التشهير.
ذات مساء دعوته إلى العشاء ومعه أمينة سره التي حفظته وطوت جوانحها على وده، وحاولت حمايته من التقولات والشائعات التي أطلقت في المدينة للطعن إن لم يكن في كفاءته ففي إخلاصه لعمله. ذهبنا إلى مطعم بحري تصادف أن كان فيه مطرب شعبي، يحفظ الكثير من أغاني أم كلثوم وأسمهان وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، ويجتهد في أداء القدود الحلبية.
توالت المفاجآت السارة: انتبهت إلى أن انسي الحاج قد انسجم مع المغني، وانه اخذ يردد، همساً، بعض مقاطعها… بل لقد هزه الطرب فندت عنه صيحات «الآه» و«اعد» وصفق بحماسة، حتى انه استعاد بعض الأغاني.
تهاوت المسافات بيننا، وأحسست أن بابا للصداقة قد انفتح، وأننا بتنا أكثر استعداداً للاعتراف، واحدنا بالآخر، برغم الاختلاف في الموقف السياسي.. لا سيما وان هذا الموقف لم ينفعه في لحظة الاختلاف مع «رب عمله» المتفق معه سياسيا.. وبالعمق.
ـ 7 ـ
والتقينا مرة أخرى في ظلال المرارة التي رافقته حتى آخر يوم، في تقديري.
حدثت انسي عن والده المرحوم لويس الحاج، وقد عرفته في الستينيات، أيام كنت مديراً لتحرير مجلة «الأحد». كان لويس الحاج صديقا للمرحوم رياض طه، صاحب جريدة «الكفاح العربي» ومجلة «الأحد» و«وكالة أنباء الشرق» أيامها، وقبل أن تهزمه السياسة في الانتخابات النيابية، مرة وثانية فثالثة، فيمتلئ مرارة حتى آخر أيامه التي انتهت اغتيالاً على يد مجرم أرسله أحد الأنظمة العربية التي احترفت القتل.
استذكرت بعض العناوين وبعض التشبيهات والتوريات التي ابتدعها لويس الحاج وأضافها إلى اللغة التي كان متضلّعاً فيها، يعرف مكامن الجمال وجزالة اللفظ وسحر المعنى متى أوصلته كاملاً من خارج المتداول لفظاً والغني بإيحاءاته معنى ودلالة.
كان لويس الحاج يكتب باسم مستعار، استولده ببراعة لغوية يحسد عليها، وظل ينبهني، في زياراته الأسبوعية، إلى ضرورة التكتم حول مساهمته لأنه لا يريد أن يفسد علاقته بجريدته – الأم التي كان مديرها ورئيس تحريرها وكاتبها بالاشتراك مع بعض تلامذته المخلصين.
.. ولقد فوجئ بي انسي الحاج اقصد إلى منزله في اليرزه، لكي أقدم له التعازي في اقرب أحبته إليه، ولكنني إنما ذهبت بدافع إحساسي بأننا قد بتنا صديقين.
ـ 8 ـ
على أن الصداقة كانت تنتظر فرصة لا تتاح كل يوم: فلقد تكرمت السيدة فيروز باستقبالنا في سهرة نادرة كان بين نجومها انسي الحاج ومارسيل غانم وصديقة حميمة لفيروز وكاتب هذه السطور.
كانت فرصة نادرة للاقتراب من تلك النجمة الساطعة في وجداننا، كإنسان طبيعي خارج الإطار الذي تصنعه الشهرة، واكتشاف ظرفها عبر نكاتها اللاذعة التي تشف عن ذكائها المميز.. كما كانت فرصة لكي يقترب واحدنا من الآخر، انسي وأنا، وان نكتشف أن بيننا من القواسم المشتركة أكثر بكثير من أسباب الخلاف أو الاختلاف.
ولقد افترضت أن هذه الصداقة ستتوطد أركانها أكثر فأكثر مع الأيام…
لم اعرض على انسي الحاج العمل معنا، تحرجاً من لياقات الزمالة واحتراما لقراره، إذا ما قرر الاستمرار في العمل في الصحافة ولها. وحين ناقشت الأمر مع رئيس تحريرنا آنذاك، الكاتب المجيد الراحل جوزف سماحة، قال: أنا مثلك أخاف من تحسسه أننا نتدخل في أسباب أزمته مع جريدته. اترك أمره لي.. وسأستشير زياد الرحباني.
لذلك لم أفاجأ حين تركنا جوزف سماحة لتأسيس الزميلة «الأخبار»، ثم حين باشر انسي الحاج الكتابة فيها وقد تخلص من «شبح» ماضيه في الصحيفة التي أعطاها مجمل عمره وإنتاجه وخرج منها بغير طلب منه أو رغبة.
سيبقى انسي الحاج معنا، خصوصاً وان معركة التجديد لا تزال مفتوحة، في الشعر كما في القصة وسائر فنون الكتابة في لحظة العبور بين عصرين ومنهجين في التفكير كما في الكتابة.