خارج فلسطين داخل إسرائيل
فقد »العربي« حق الكلام عن فلسطين بصفتها بعض أرضه.
بالمقابل صار من حق الإسرائيلي الحديث عن »فلسطين« باعتبارها »محمية« ضمن كيانه السياسي، وإن كان يفضل الكلام عن »الفلسطينيين« وسلطتهم مع إغفال اسم الأرض التي صارت بأكثريتها أرض دولته مع أقلية قومية ضمنها.
ارتحلت فلسطين، عند العربي، إلى القصيدة. صارت في وجدانه، أما هو فقد أُخرج سياسيا، منها.
لم يُخرجه الإسرائيلي، بل أخرجه »فلسطيني السلطة«.
الاحتلال لم يلغ الهوية، بل لعله أكدها: فلسطين أرض عربية، شعب عربي، تاريخ عربي، مصير عربي.. الخ.
أما مع »سلطة الحكم الذاتي« فإن الشرط الأول للإقرار بالفلسطيني فهو أن يُخرج نفسه من العرب، وأن يُسقط عن أرضه هويتها العربية.
لكي تكون من فلسطينيي السلطة عليك أن تتبرأ من »العروبة«، وأن تتنصل من العلاقة بسائر العرب، وأن تُسقط عن »فلسطينك« هويتها القومية، وأن تؤكد »استقلالك عنهم إلى حد معاداتهم«.
أي إن عليك أن تقترب إلى حد الذوبان أو التماهي مع الإسرائيلي في موقفه من العرب: هم أعداء حتى يستسلموا، ولن يستسلموا إلا إذا أسقطوا عنهم هويتهم القومية، أي عروبتهم، وانزوى كل منهم داخل كيانه الصغير المسوَّر بجو من العداء مع »الكيانات« الأخرى، التي كانت عربية، لكي تقبله إسرائيل فتصفح عنه ولا تحاسبه عن ماضيه العدائي وتوقّع معه فتدخله جنة سلامها الموعودة.
لا يكفي أن يخرج »الفلسطيني« من عروبته،
ولا يكفي أن تُخرج »السلطة« فلسطين من هويتها الأصلية،
ولا يكفي أن تلتحق »السلطة« بإسرائيل، فتكون تحت هيمنتها منذ لحظة الولادة وحتى يوم الدين.
لا بد من أن يقاتل »فلسطيني السلطة« عروبة الآخرين حتى ينفيها في كياناتهم هم أيضاً.
لكي تخرج مصر من فلسطين يتوجب أن يعلن مواطنها »مصريته«، البريئة من شبهة العروبة، لأن العروبة تعيده أو هي تستبقيه في فلسطين.
ولكي تخرج سوريا من فلسطين يتوجب أن يذوب »الفلسطيني« في »الإسرائيلي« بحيث تُلغى مساحة العروبة الضرورية لحق السوري في أن يحمي عروبته داخل فلسطين لتتأكد عروبة سوريا ذاتها.
الكيانية تستنهض الكيانية.
فإذا صار الجميع كيانيين حققت إسرائيل نصرها الأكبر على الجميع، الذين يصيرون بذلك خارج فلسطين، أي خارج »القضية«، أي خارج »الرباط المقدس«، أي خارج العروبة.
فلسطين هي الاسم الحركي للعروبة.
مَن خرج من الجزء خرج من الكل،
ومَن خرج من الكل دخل العصر الإسرائيلي.. وهو غير آمن!
عيد ميلاد الكلمة المختلفة
بلا جهد ملحوظ، انقلب المقهى إلى »بيت«، وتوزع »الأهل« بين جنباته يحاولون الاهتمام بضيوف »يوسف سلامة« قبل أن يكتشفوا أنهم بذلك يعطّلون »المعلم سليمان« ورفاقه عن عملهم، ويدوِّخون »جو« بحركتهم اللولبية، ويزيدون من قلق هشام شرابي الذي كان يسجل »المخالفات« المسلكية التي يرتكبها »الرفقاء« والأصدقاء الذين لم يلتزموا بتعليماته (المكتوبة) عن »اللباس الرسمي« أو مواعيد الوصول المحددة بدقة البروتوكول في القصور الملكية.
في الزاوية العميقة، بأقصى المقهى، كان يوسف سلامة المتأنق كعريس، يجلس »عاقلاً« بينما تجمع عيناه »المادة« التي ستحول حركات هؤلاء »الضيوف« غدا الى مادة دسمة للمداعبة والملاطفة والتشهير الناعم في الكتاب الجديد الذي لا بد يفكر فيه الآن، والذي سينتجه نائما على ظهره!
لم يعترض »جو« على تمرد عبد الرحمن منيف وهنادي وقدومهما بثياب العمل غير الرسمية.. فصادر لهما أقرب كرسيين إلى طاولته الصغيرة المحصنة جدا.
اكتمل النصاب، أو هكذا أعلن »المدبر«، فجيء بمكبر الصوت، وجرت محاولة لوضع شريط باللحن المميز لأعياد الميلاد، لكن التلهف الى ترجمة العواطف في كلمات مكتوبة ومحددة أوقاتها بدقة، غلب التنظيم.
كان »جو« مستعداً، فأخرج من جعبته طوقا من الورود يشبه تلك التيجان التي كانت تجلل رؤوس قياصرة روما عند عودتهم مظفرين من غزواتهم أو فتوحاتهم، فوضعه على رأسه لتكتمل به هيبة الملك على الوجه الساخر من الملوك والممالك والملكية الفردية أيضاً.
تعاقب الخطباء وفيهم بعض رفاق الصبا وبعض أصدقاء الكهولة وبعض متذوقي الكلمة التي يتقن »جو« استيلادها المعنى الذي يريد حتى لو كان من خارج دلالتها الأصلية.
ضحك الجميع من اللفتات والإيماءات التي تكشف بعض المستور من »عورات« يوسف سلامة الطالب في الجامعة الأميركية، أو مدير أنترا في نيويورك، أو المستجم لستة شهور من كل عام في السويد التي أعطته بالإضافة الى زوجته الوفية وذريته الصالحة، الهدأة وملكة الكتابة و»دار نلسن« التي نشرت نتاجه المتميز حيث تلاقت باقات الزهر النادر مع ترنيمات الطيور المتبرجة بألوان الطيف وطابات الغولف والاختيار المرهف للوحات الرائعة لكبار الرسامين المبدعين.
وضحكوا من تأتأة هشام شرابي الذي جاء خصيصا من أجل إحياء هذا الاحتفال وتولى تنظيمه مستفيدا من روح الانضباط الشهيرة تاريخيا عند »تلامذة أنطون سعادة«، لكن العاطفة أفسدت التنظيم وإن أشاعت روحا من الإلفة والظرف وبهجة العيد متخطية القواعد الصارمة للمناقبية الحزبية.
صانع العيد لم يشرب، لم يأكل، لم يتذوق الحلوى التي أُعدت للمناسبة… لكنه كان »روح الفرح«، حتى عندما جاء دوره في الكلام فأخذ يوجه التحيات الى زوجته البعيدة وإلى صهره الذي تمرن على الخطابة فينا، وإلى أشيائه الحميمة في بيروت والسويد، معلنا استمراره في مبارزة »الخبيث الخبيث«، بالطيب الطيب من هذه العاطفة الإنسانية التي لا تطيل العمر فحسب بل تعطي العمر معناه.
أشعلنا شمعة جديدة لجو. ربحنا مزيدا من أيام المتعة والظرف والود.. وقد نربح كتابا جديدا.
انتصار صغير. لكننا نحتاج اليه بشدة مع تعذر الانتصارات الكبيرة.
لم يكن احتفالا بعيد ميلاد الكاتب. كان أقرب الى الاحتفال بميلاد جديد للقراء، ولكلمة من نوع مختلف!
خارج صندوق الفرجة
جلست على طرف مدى النظر وتابعت ما يجري أمامها محاولة التخلص من ثقل الشعور بالغربة: هل اختلف العصر إلى هذا الحد؟! هل تبدل الناس بحيث لم يتبق الكثير من المشترك بين الآباء والأبناء؟! هل ما تراه مظاهر للحب أم للرغبة أم انها متعة اللحظة فحسب، فإذا ما انقضت مضى كل الى حال سبيله وكأن ما كان لم يكن؟!
لم تكن قادرة على إعلان قبولها هذا التبدل المخالف لكل ما نشأت عليه، ولم تكن تملك أن ترفضه، فلا أحد يسألها رأيها. يكفي الفضول، إذاً!. لتفترض أنها تتابع شريطا سينمائيا. لتنس أنها تعرف من تراهم. لتنظر اليهم على أنهم خارجها… لا يهم من أين جاؤوا وكيف.
إنه عالم آخر، كل شيء فيه مختلف: ليس الزواج الزواج وليس الحب الحب وليس العشق العشق. إنها علاقات من نمط آخر، لا تعرف لها اسما محددا، ولكن واقعها ثقيل بحيث يفرض نفسه، ولتأت التسمية في ما بعد. لا يهم.
الصوت هو الجامع المشترك. الموسيقى. »الجو«. ما تبقى عوالم مختلفة، متجاورة، وقد تتقاطع عند حدود المجاملة، ولكنها لا تتوحد ولا تتكامل.
انتبهت إلى أنها ليست وحدها من »يتفرج«، وأن ثمة من يتخذها هي موضوعا للفرجة. أعجبتها فكرة أن الجميع في قلب صندوق الفرجة، وان كلاً منهم يحظى بفرصة للخروج منه لكي يتفرج على الآخرين، ثم يعود إليه ليكون موضوع الفرجة.
الممثل صار جمهورا. الجمهور ممثلاً. القصة تصنعها الحركة. الحركة تصنعها الرغبة. الرغبة تستولدها اللحظة. تمضي اللحظة فيتبدل الجمهور والقصة والحركة.
في أمكنة أخرى تدور وقائع مختلفة، تصلح موضوعا لجمهور مختلف، يدخل صندوق الفرجة ثم يخرج منه ليتفرج على ذاته والآخرين.
والصندوق يتسع للجميع… وهي وحدها تبقى خارجه، بالارادة كما بالرغبة في موقع »المتفرج«.
عن اللواتي يرقصن بحناجرهن!
دارت الراقصة دورتين بين الطاولات التي احتشد من حولها الرجال العابسون بوقار الأهمية، وقد أقفل معظمهم أفواههم بمباسم النراجيل يطلقون دخونها كأنما على إيقاع الطبلة المنظم لتلوي الجسد البض شبه العاري إلا من ألوان الطيف التي تتداخل فتتقاطع ثم تتباعد مشكّلة إطاراً زاهياً للحركة المنغمة.. بما ينسيك النقص في جمال الراقصة.
جاملها بعض الرجال بتحريك نرابيش النراجيل تعبيرا عن الانسجام، بينما هز الطرب أحدهم فأخذ يدق بباطن يديه على الطاولة مصاحبا ضابط الإيقاع، إلى أن قمعته زوجة صديق له، فاكتفى بأن يعبّر بكتفيه وعينيه وفرقعات من أصابع يديه.
لم تعرف النشوة طريقها وسط الدخان الكثيف والدوي الخارق طبلات الأذن، فانهمك الرجال العابسون في الأكل، وقلة منهم اكتفوا بالشرب والشرود وراء ملذات لا يملكون إليها وصولاً.
دارت الراقصة بعينيها، فلم تجد إلا امرأتين أو ثلاثاً وسط غابة الشنبات الكثيفة بدا عليها الانزعاج. لا مجال للتباري والفوز بالإعجاب والشماتة بالزوجات.
تباطأت حركتها… وفقدت حماستها، لكنها استمرت تؤدي وصلتها بآلية التعود.
فجأة لمحته فانتعشت. قالت في نفسها: إنه يستحق أن أرقص له!
قاربته فقرأت في عينيه الوعد، وأعجبتها وسامته التي تكشف أنه طارئ على المكان.
دارت دورة كاملة وعادت إليه فوجدته مشغولاً بالمطربة التافهة التي افتتحت السهرة بصوتها المنفر. قالت بصوت شبه مسموع: يا ذوق! وانفلتت مبتعدة عنه، ثم تسارعت خطواتها، واتخذ ارتجاج الجسد سياقا مختلفا، خصوصا مع غياب ابتسامة الاستدراج عن وجهها.
وهي تنصرف مشيَّعة بالتصفيق كان عليها أن تمر بطاولته، فالتفتت إلى المطربة ورشقتها بهمسة: نهود وسيقان وعيون وقحة، ورقص تحت الطاولة…
لم ترد المطربة لكن »الرجل الوسيم« جدد لها الوعد بعينيه، فهزت له وسطها وهي تبتسم بجسدها كله!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا تتبدل طبيعة الحب وان تبدلت مظاهره. من خارجه يراه »جنونا«، أما المحبون ففي أفياء »جنتهم« يهيمون، وعلى الحد بين »الجنة« و»الجنون« مخيمات لإيواء حشود المنتظرين أن تخرج »جنية« تهتف باسم صاحبها، أو تمشي إليه ويمشي إليها فتكون حكاية جديدة للذين تنتهي أعمارهم خارج الحكاية.