اعترافات »العالم« الذي جاء من أخميم إلى الأممية.. العربية!
أخيرا تكشفت لي بعض »أسرار« مثقفنا العربي الكبير والمنارة اليسارية محمود أمين العالم، وقد كانت تحجبها دماثته ورقّته وتهذيبه الملكي: انه ابن بيت دين، فأبوه شيخ أزهري، وكذلك أخواه، وجذر العائلة في »أخميم« في اقصى الصعيد المصري، والأم »هدية« التي جاءت مصر من تكريت ذات جذور تركية… ثم إنه عاش شبابه في تنظيمات سرية، كانت بداياتها ضيقة الأفق الوطني الى حد تقليد النازية، في حين ان مرحلتها الذهبية، في زمن النضوج، كانت أممية في اتساع الدنيا، وإن ظلت جذوره في حارة الكحليين بحي الدرب الأحمر، اكثر أحياء القاهرة شعبية وشهرة، مع انفتاح على الأفق العربي جعله نموذجاً لليساري او التقدمي العربي الذي لا يهاجر مع الأفكار الجديدة بل يعزز بها نضاله من أجل مجتمعه.
فلقد حمل إليّ الزميل سليمان الحكيم من القاهرة بعض كتبه ومن بينها واحد أعطاه عنوان »اعترافات شيخ الشيوعيين العرب، محمود أمين العالم«، وهي حصيلة لقاءات صحافية معه لا تشكل إلا نبذة من تاريخه العريض وإن كانت تعطي فكرة عن غنى التجربة التي عاشها، أمدّ الله في عمره.
نعرف من »الاعترافات« ان الطفل الذي صار أستاذاً لجيل قد تنقل في طفولته وحتى شبابه الاول بين مدرسة الرضوانية الاولية في حارة السقايين، فمدرسة النحاسين، قرب مسجد الامام الحسين (وكان فيها جمال عبد الناصر، يسبقه بسنتين)، ثم مدرسة الاسماعيلية الثانوية بميدان السيدة زينب، فمدرسة الحلمية الثانوية… وإن أخاه محمد الذي كان يدرس في الازهر هو استاذه الاول، وفي مكتبته عرف مجلة »الرسالة«. وبواسطته تعرف الى الشيخ الغاياتي وإلى كامل الكيلاني، أشهر من كتب قصصا للاطفال باللغة العربية، و»كان يلقي على مسامعنا بعض قصصه«. من هذا المكتب أيضا حصل على ترجمة فيلكس فارس لكتاب نيتشيه الشهير »هكذا تكلم زراداشت« وقد أثر فيه كثيرا حتى قرر التخصص في الفلسفة. وإن الفضل في بعض ثقافته يعود الى أنه كان يقرأ بعض الكتب التراثية لأخيه الكفيف احمد، التي كان يدرسها لينقلها كتابة الى طريقة برايل.
نعرف، أيضا، عن البدايات السياسية أنه تنقل، كفتى، بين العديد من التنظيمات: الأحرار الدستوريين، الحزب الوطني، الحزب البازي (تقليداً للحزب النازي في ألمانيا)، مصر الفتاة، قبل ان يتعرف الى تراث أول حزب اشتراكي في مصر وهو الحزب الديموقراطي الذي ضم بين مؤسسيه أسماء كبيرة بينها مصطفى عبد الرزاق، صاحب كتاب »التمهيد« وكذلك محمود عزمي، الكاتب والصحافي والمفكر المعروف.
على أن أهم ما في الاعترافات ما يتصل بالتأريخ المبسط للحركة الشيوعية المصرية، والتي نشطت في أجواء ثورة 1919، واستمدت بعض ثقافتها من كتاب لينين »الدولة والثورة« الذي ترجمه في العام 1922.. ولقد اصطدمت هذه الحركة، في البدايات، بسعد زغلول الذي ضغط عليه الاحتلال البريطاني لتصفية أول حزب شيوعي (وكان بين قادته سلامه موسى وحسني العرابي والشيخ ابو الفتوح، الازهري).. مع ذلك، وبعدما صار الحزب سرياً ظل يسعى الى التحالف مع »الوفد«.
يستذكر محمود أمين العالم دور »شبلي الشميّل« اللبناني في التأسيس… ثم يروي كيف توالدت »الاحزاب« الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية: »حدتو« و»نحشم« وطليعة العمال وغيرها، وكيف ظهر اليهود في تلك التنظيمات وأبرزهم هنري كورييل، الايطالي الاصل، ويوسف درويش وصادق سعد..
.. وكما اثر فيه كتاب نيتشيه، فقد أخذه كتاب ماسينيون عن الحلاّج الى التصوف والمثالية.. يقول محمود أمين العالم إنه كان يأخذ على الحركات الشيوعية تصدر اليهود لتنظيماتها، ولم يكن تحفظه على يهوديتهم بل على كونهم أجانب… ثم إنه كان يصر على »مصرنة« الحركة الشيوعية. وقد عمل لتوحيد الشيوعيين، وساعد على ذلك ان معظم اليهود قد هربوا من مصر بعد ثورة يوليو 1952 لأن معظم ضباطها كانوا ممن عادوا من فلسطين بعد الهزيمة في مواجهة المشروع الاسرائيلي.
بين ما يكشفه العالم ان موفدا من الحزب الشيوعي العراقي جاء الى الشيوعيين في مصر، عشية قيام ثورة 14 تموز في بغداد بقيادة عبد الكريم قاسم، ليبلغهم ان الثورة ستقوم، وأنها ستكون معادية لعبد الناصر والوحدة، وأنهم يرفضون ان يتحول العراق الى »اقليم« في الجمهورية العربية المتحدة التي »ألغت اسم مصر، واسم سوريا«.
كذلك فهو يستذكر انه غضب غضبا شديدا حين سمع خالد بكداش، زعيم الحزب الشيوعي السوري، يقول إن التأميمات التي أقدم عليها جمال عبد الناصر تصنع تراكما لما يسمى برأسمالية الدولة الاحتكارية..
وينتهي محمود أمين العالم الى خلاصات لتجربته الغنية منها: أن ثورة 1952 تمثل أعلى موجة من موجات التحرر الوطني في مصر، وأنها تحتل القمة في الحركة الوطنية المصرية.. وأن موقف الشيوعيين من الثورة العام 1954 كان خاطئاً.. فلم تكن دولة عبد الناصر بوليسية، بل كانت بنيتها في عهده معادية للاستعمار.
في »الاعترافات« ايضا بعض جوانب الصراع مع المثقفين بيسارهم واليمين تنتهي الى التأكيد أنه لم تمنع أية مسرحية في عهد جمال عبد الناصر، بدليل أن مسرحيات توفيق الحكيم وسعد الدين وهبة ورشاد رشدي وباكثير وأباظة قد اخذت طريقها الى العرض على مسارح الدولة، وكذلك مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي (وبينها الفتى مهران) وميخائيل رومان وبينها »الدخان«.
في الاعترافات مرور سريع على ازمات الولادة والتكوين التي عاشتها الحركة الشيوعية المصرية بتنظيماتها المختلفة، سواء قبل صدامها مع ثورة عبد الناصر والاعتقالات الواسعة في صفوفها، او بعد الخروج من المعتقلات الى السلطة، وآثار التقلبات على مستقبل هذه الحركة.
اما بين الطوائف فهو التذكير بالهتاف الذي كانت تفتتح به اجتماعات »حدتو« وهو: »يعيش الرفيق الأمين العام خالد، الف عام«.. و»خالد« هنا هو المرحوم فؤاد مرسي..
محمود أمين العالم: شكرا لك على صراحتك، حتى وإن كانت هذه الاعترافات غيضا من فيض، وإن ورد فيها بعض الأغلاط التي أشرت اليها في تقديمك لكتاب سليمان الحكيم.
الشعر رجل وامرأة متحدان في حرفين!
جلسا متقابلين، متقاربين، بل لعلهما كانا متحاضنين في قلب خميلة حب اصطنعاها وسط الحشد، وقد تخففا من تهيب الاتهام بالمراهقة..
كانت قد فرغت لتوها من غزل شِعره جسداً تفزع اليه ليمنحها الشعور بأنوثتها.
وكان قد فرغ من غزل جسده شعراً لكي يستعيد ثقته برجولته. كانا يبدوان كشابين في العشرين من العمر: الجسد يحيا بالشعر ايضا. مع اول »غمزة« صدرت عن الصديق اندفع الرجل الذي يتحدث همساً كأنه لا يريد للكلمات ان تغادر معناها فيه:
وما دخل عمري بالحب؟ الحب كالشعر، يا صاحبي، ولد معي وعاش معي. وسأظل احب لو بلغت عمر نوح. بل لعلي لا استطيع قبول ان اعيش مع السفهاء والغلظاء ومفسدي اللذّات والفضوليين الا بفضل الحب. الحب يحوّل العيش الى حياة. كلكم منافقون وجبناء، تدّعون العفّة في حضور الآخرين ثم تتسللون الى أسرّة عشيقاتكم!
لم يكن الصديق بحاجة الى هذا الدرس في آداب الحب، فقال:
لقد علمتنا بشعرك الاخضر ان القلب لا يشيخ، وأنه يبقى يضخ الحب ويطلبه ويقبله بغض النظر عن عمر حامله. للقلب عمره المفتوح وكذلك العقل!
هدأ قليلا قبل أن يلتفت الى صديقه معتذراً:
هي الرغبة في الحياة. هو الاستقواء. بالحب على قرب المغادرة. لقد ضجرت من ثرثرات المجاميع. أفضّل الهمس. أريد ان اجلس الى امرأة بعينها، وأن أرى فيها نساء الارض، وترى فيّ الرجال جميعا. لا أريد جمهوراً. اريد امرأة واحدة. الشعر امرأة. خارج المرأة يصير الشعر خطابا من خشب. الشعر رجل. بلا رجل تنحطم الأوزان وتتهاوى القصيدة. مع كثير من الرجال يصير الشعر مهرجانا. الشعر رجل وامرأة متحدان في حرفين باتساع الدنيا!
صرنا أشياء! صرنا مسحوق البشر!
غمرني الفرح حين سمعت صوته يهتف: أنا في بيروت، أخيراً! ألديك بعض الوقت لصديق قديم؟!
بينما هو في الباب كنت استعيد صور لقاءاتنا الحميمة منذ ان جمعتنا المصادفات في بلاده قبل ثلث قرن. تعانقنا بحرارة. تبادلنا الاسئلة عن الاولاد، وهل بات لنا أحفاد، استذكرنا وقائع اللقاء الاول، ثم بعض الطرائف التي لا تريد ان تغادر الذاكرة، ثم انقطع حبل الكلام. تبادلنا النظرات كأن واحدنا يستكشف ما في أعماق الآخر.
بعد لحظات، جاءني صوته عميقا كأنما يخرج من غور بئر:
انتهينا! لم نعد بشرا. صرنا أشياء!
أخذتني رنّة الحزن في صوته بعيداً. غُصت في أحزاني… وافقت على صوته يضيف:
إننا مسحوق البشر. تعطلت عقولنا بالخوف. تعطلت قلوبنا بنسيان الفرح والعجز عن مزيد من الحزن. اختنقت في صدورنا الاحلام والآمال. اقتعد الشرطي رؤوسنا وأمسك بأطراف ألسنتنا حتى لم نعد نقوى على الكلام، فضلاً عن التفكير. إنني أهرب من التذكر إلى الواقع. الأحلام الموءودة تجعل الصدر مقبرة. لقد جئتك لأتذكر أنني حيّ.
لم أعرف ما أقول. لجأت الى الصمت. عاد يحدث نفسه عبري:
تركت بلادي عبر القاهرة. زرت فيها أصدقاءنا. كنت كمن يطوف بضريح وليّ أو قدّيس. وفي دمشق قصدت بعض رفاق العمر. نظروا إليّ كمن يرى شبحا وعجزت عن استذكار أيامنا الخوالي… لقد بتنا مسحوقاً بشريا. تهاوت أحلامنا في طريقنا فسدّته، وتعاظمت أشباح العسس في مخيلاتنا فالتهمت عقولنا. لم يعد يزورني أحد. لم أعد أزور أحداً. هو يخافني وأنا أخافه، والشرطي يخافنا مجتمعين ومنفردين، ونحن نخاف الشرطة، ونخاف الشمس، ونخاف الليل، نخاف من الصمت ونخاف من الكلام… وهكذا نتقوقع داخل جبانة الصمت..
هب واقفاً. قلت: لم تفرغ من كلامك، ولم تسمعني..
رد وهو يتجه إلى الباب: لا مزيد من الكلام… أخاف منك الآن، ولعلك تخاف مني. لعلنا نلتقي بعد أن نقتل الخوف!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تقسُ على حبيبك في العتاب. لا تحاسبه على كل كلمة وكل تصرف. لا تشعره بأنه في سجن من حبك.
الحب فضاء مفتوح للشعر والموسيقى والفرح، إن جعلته قفصاً سقط صريعاً.
أعط قلبك لكل الناس توصل حبيبك اليهم، وتبقى له بكليتك. أليس حبيبك كل الناس؟