الزيتونة التي لا تهرم: جورج حبش في الغد
ليس شبحاً هذا الثمانيني الذي يجر خلفه تجربة ولا أغنى وهو يتغذى ويتقوى ويزداد صلابة وشموخاً بانفتاح قلبه وفكره على رؤيا ولا أبهى: لغد فلسطيني للعرب بل للشعوب المقهورة في الأرض جميعاً، تبزغ شمسه مضرجة بملامح الشهداء، من قضى منهم ومن ينتظر وما بدّلوا تبديلاً.
وليس أجدر منه، هذا »الحكيم« الذي قاتل بعمره ضد ظلمة الأمس وضد ظلم اليوم بأن يفكر بالغد ويعمل للغد ويتقدم نحو الغد بالعلم والدراسة المتأنية القادرة على محاكمة التجارب واستخلاص العبر بما ينير الطريق لمعرفة الذات ومعرفة العدو ومعرفة الظروف المحيطة وسبل المواجهة حتى الانتصار بالإنسان وللإنسان، بالحق وللحق، بالحقيقة وللحقيقة، في كل مكان وزمان.
اسمح لنا، نحن الذين شرّفنا الانتماء الى عصرك بأن نحيي فيك، جورج حبش، هذا الإصرار على المقاومة، أنت الذي استشهدت ألف مرة، ثم كانت فلسطين العروبة تبعثك حياً لتكمل ما بدأت، بالتظاهرة، بالمنشور، بالتنظيم الطلابي، بعصبة العمل القومي، بشباب الثأر، بحركة القوميين العرب، بالكفاح المسلح مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم بهذا المركز الذي هو الاسم الحركي لمواصلة الجهاد حتى آخر نفس دون انحراف أو مخادعة للنفس: فالعروبة هي الطريق الى فلسطين ومنها الى الأمة جمعاء، والمعرفة هي السلاح، والوعي بالذات والوعي بالعدو والوعي بالظروف المحيطة، هي هي عدة النصر، أمس واليوم وغداً.
لقد أخذتنا الحماسة إلى العدو من دون معرفة به وبواقعنا، فانتصرت معرفته على جهلنا من دون قتال تقريباً. اكتفينا بالحق حجة والإيمان سلاحاً فغلبنا وعيه بأحوال الدنيا التي كنا لا نعرفها.
لقد لفتني في التقديم لمركز الغد العربي للدراسات الإشارة إلى تقويم التجربة منذ عصر النهضة وحتى اليوم… ذلك ان مسار الأحداث، بتطوراتها قد باغتنا غالباً فأخرجنا من السياق الطبيعي للجهد الذي بذله الرواد من أجل معرفة الذات وموقعنا، كعرب، في هذا العالم.
لا بد من وصل ما انقطع.
فالعروبة هي أكثر ما يستهدفه العدو فينا اليوم، سواء أكان أميركياً أم إسرائيلياً، وسواء قنع بالشعار الإسلامي أم خرج إلينا مستقوياً بالشوفينينة أو بالعنصرية أو بالطائفية أو بالكيانية.
وعلينا الاعتراف بأننا قاتلنا طويلا ضد عدو لم نعرفه بكليته الا متأخرين جداً، اكتفينا. بأن حولناه إلى شبح وإلى غول ثم فجعنا حين رأيناه وكأنه العالم مجتمعاً ضدنا.
بل إننا قاتلنا من قبل أن نعرف أنفسنا مفترضين ان العاطفة وحدها تكفي، أولسنا كلنا عرباً… وما الفرق بين أحفاد عبد القادر الجزائري وأبطال ثورة الريف في المغرب وبين المناذرة والغساسنة والتغالبة في بلاد الشام وأرض السواد، بل ما الفرق بين عدنان وقحطان في الجزيرة بشمالها النجدي وجنوبها اليمني والخليج؟!
لم نكن نعرف رقماً يتصل باقتصادنا، بل حتى بعدد السكان. لم يكن لدينا مصنع واحد. لم نكن ننتج بندقية ولا محراثاً ولا غطرة. كنا خارج العصر، وكان عدونا بين صنّاع العصر.
كانت لدينا الحماسة، ولم تكن وحدها كافية لتحوّل الايمان إلى قوة قادرة على إلحاق الهزيمة بعدو يكاد يختزل كل العالم، بعقائده المصطرعة إلا من حوله، وبطبقاته المختلفة إلا من حوله، وبأديانه المشتبكة حول السماء ما عدا ما يتصل منها به!.
إنها خطوة على الطريق الصحيح، تتم برعاية هذا »الحكيم« الذي مثل كل فلسطيني: يولد وعمره ألف عام إذا ما احتسبنا الدروس المستفادة من يوميات النضال لإثبات الحضور الباهر الذي تتعامى عنه القوى الظلامية في العالم أجمع، ربما لأنه يختزن في قضيته من رموز الحق والعدل والخير ما يمكن أن يغير العالم.
تحية لهذه الزيتونة التي لا تهرم، جورج حبش.
مع أطيب التمنيات بأن يكون إنتاج هذا المركز زيتاً في مشكاة، نوراً على نور، يشق قلب الظلم والظلام، من أجل غد عربي أفضل بين عناوينه هذا المركز العربي للدراسات.
(كلمة في ندوة أقامها المركز العربي للدراسات
في دمشق)
الياس غانم ينجح مع »الزط«!
من زمان لم تقع يدي على مجموعة قصص قصيرة، حتى حسبت أن الكتّاب قد هجروا هذا اللون الجميل من الكتابة هاربين الى الشعر بالنقاط السوداء فوق صفحات بيضاء.
قبل أيام، جاءتني مفاجأة طيبة من الياس غانم، قصص تحمل عنوان واحدة منها »الزط«. لفتني العنوان لطرافته بداية، فباشرت قراءة القصة الاولى ثم وجدتني أغرق في القراءة حتى كلمة الناشر على الغلاف الاخير: »القصة القصيرة هي التفاصيل التي ندوّنها لتشهد على تحوّلنا. هي الوشم الذي تحفره لحظة ما في وجداننا وذاكرتنا، وحين نستعيدها في القص والتدوين نستعيد فيها ما بقي او ما سيبقى منا…«.
قرأت القصة الاولى والثانية والثالثة، فأمتعني الأسلوب الشيّق واستوقفتني اللغة الأنيقة والرشيقة على فصاحتها المميزة. استذكرت واحداً من العمالقة في كتابة القصة القصيرة: يوسف إدريس، الذي كان يدخلك عالم حكايته، ويتوغل بك داخل شخصياته، فإذا أنت تنساق في صراعاتها وكأنك طرف.
وأحببت بعض الشخصيات التي نسج الياس غانم حكاياتها ببراعة، بعدما نفض عنها الغبار الذي يغطيها حيث تعيش في الظل، على هامش دورة حياة الآخرين من الاقوياء الذين لا ينتبهون إليها، إلا مع… انفجارها بالغير.
وليست كل شخصيات الياس غانم من الهامشيين، بل في القصص مساحات للعشق نابضة بحب الحياة حتى وإن انتهت بمأساة.
لقد نجحت المخاطرة في التفلّت من قوانين السرد والتعبير، حتى لو كان البعض سيعترض على الخواتيم المأسوية للقصص التي تبدأ جميلة وتمتد جميلة حتى حدود الموت.
حكاية/ لماذا لم تغلق باب الليل
كأن لم يمر على أوراق شجر الجوز خريف مطرز بالثلج يطوي مواعيد المصادفة التي تصير حكايات لليالي البرد، لا تجد من يكتبها، مع ان الصفحة ما تزال مفتوحة لشفة القراءة، والكتاب ينتظر بعد ان تهبط عليه العيون التي تنثر النعاس لتطفئ اللهفة.
لم تنشق الأرض عنها، ولكنها انبثقت كالضوء، خافتة الحركة والصوت، فاختفى الحشد خلف ظلها الذي تهادى بطيئاً فغمره بسور من النشوة:
لقد نسيتَ، يومها، أن تغلق باب الليل، وها أنا انتظر بعدُ في سهري، جرس الانصراف… لا أعرف من أنتظر، وكم سأنتظر، ولماذا أنتظر من حكاية لم أسمع منها إلا »كان يا ما كان في سالف العصر والأوان«، ثم أغلقتها وأنا لا أعرف هل فيها شهرزاد ام اختبأ في ثناياها الشاطر حسن قبل ان ينطلق في رحلة جديدة الى بلاد الأحلام.
لم ينطق التمثال. لم تطرف جفونه. لم يمد يداً للسلام. همست: ألست تنوي أن تختتم رقصة الفراشة؟!
هزّ رأسه مرات كثيرة، فلم تعرف أهو ينفي أم يؤكد أم يهرب الى الحيرة.
عبثا يكافح النسيان. استعاد صدى الضحكات تترقرق مموسقة فتصير جزءا من الاغنية والآهات، استعاد صورة الساهرين مصلوبين على خوار ذلك الثور الذي زعم انه يقول الشعر. استعاد تفاصيل بيت الغربة الذي يشي بافتقاده يد الساحرة التي تمسح عنه غبار البرد والضجر.
قالت كأنما تمد إليه يداً تعين الطفل فيه على تجربة المشي: مفتاح الليل معك، بعد، حاول…
اقتنص الفرصة التي توهّم أنها قد فتحتها أمامه: غدا…
ضحكت بشعرها وكتفيها وصدرها، ومشت بعينيها فوق جدار اللون، ثم توقفت تسأله: تفضل الازرق في اللوحات؟! لا أظنك تحبها فاجرة الحمرة…
كان يخب بعد في عطرها، يحاول العثور على الكلمات فتهرب منه، حتى أنقذه التصفيق لخطيب التظاهرة خلفه.
قالت وهي تبتعد: لماذا جئت قبل الليل؟ لماذا انصرفت قبل النهار؟ لماذا تنسى اسمك في أنفاس غيرك؟
عندئذ فقط جاءه اسمها، ولم يجرؤ ان يلحق بها ليعيده اليها.
ورق الجوز المطرز بالثلج ينتظر الشمس.
وبيت الغربة ينتظر يد الساحرة لتمسح غبار الليالي المبتورة النهايات، والاسماء تدور باحثة عن أصحابها، بينما الضحكات تكتب على وجه الليل قصصاً بلا خاتمة.
وصحب الاسم، مرة اخرى، ليلفّه بورق الجوز حتى لا يذيبه الثلج.
تهويمات
÷ قالت التي سافرت بغير وداع: سأجعلك تبقى ساهراً في قلب قلقك. لن تسمع مني كلمة تطمئنك، لعلي بذلك انتقم من صمتك.
لم يأتها الجواب، فلما اقتربت منه وجدته نائماً!
÷ كانت تروي تجربة زواجها الفاشل فتبكي بغير دموع. وختمت بالقول: غداً سأتركه، وأبدأ حياتي…
انتبه إلى انها بررت زواجها من بطل زواج فاشل قبلها، بالقول: غداً سأتزوجه، رغم كل شيء وابدأ حياتي…
ثم انتبه إلى ان للنساء حيوات كثيرات، ولكل حياة بدايتها المختلفة!
÷ قالت الصديقة المشتركة: لماذا تريدين الذهاب إليه. انه مشغول عنك وعن النساء جميعا بحبه.
قالت بحدة: سأحاول تدمير كل حب… ليصبح الجميع مثلي!
وقالت الصديقة: هذه اسرع طريقة لتدمير الذات، اما الحب فأقوى منك. ولن تستعيدي قوتك إلا إذا احببت، والحب لا يؤجر ولا يباع ولا يأتي من الركام. ابحثي عن حبك بدل ان تعيشي في الخرائب. حتى البوم يذهب إلى الخرائب هارباً بحبه إليها وليس لانه يكره الحياة. كيف تحبين نفسك وانت تحملين كل هذا الكره للحياة؟!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب لا يركب الطائرة، لكنه يسبقها، ويمسك بمن يحاول أن يهرب وما هو بهارب…
الحب يتسع بمدى الكون، فأنت تعيش فيه وبه حيثما كنت تهرب منه إليه، فما أطيب اللقاء.