عن يوسف صايغ الذي علّمنا الأرقام!
مرة أخرى ذهبنا لنحيي عيد التوأمين معاً: جريدة »الخليج« في الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة التي ما زال لها من اسمها نصيب و»السفير« في الدولة قيد التأسيس، لبنان.
القاعة هي القاعة، في المبنى الأنيق الذي تصدر منه وعنه مطبوعات عدة، والحضور هم، بأكثريتهم، الحضور، لكن »تريم عمران« الذي ترفرف روحه من فوقنا، يطل علينا عبر صورته المتشحة بالسواد.
جاء الكل إلى الندوة السنوية بمزيد من الأسئلة. كاذب أو منافق من يدعي أنه يملك الأجوبة. صار الحضور لطرح السؤال نوعاً من المقاومة. وحده المتخاذل أو المستسلم سلفاً يقبل بالصواريخ والقذائف وجنازير الدبابات أجوبة عن أسئلة مستقبله.
العيد مقاومة. الفرح مقاومة. اللقاء مقاومة. تبادل الآراء مقاومة. التفكير مقاومة. طرح الأسئلة مقاومة. الكلمة مقاومة. تباركت الكلمات التي تفجر الدبابات دون أهدافها، والتي لا تستطيع الطائرات أن تقتلها.
لقد سقط الكثيرون على الدرب. بعضهم أسقطه التعب، وبعض أسقطه اليأس، وبعض تعجل موته لأنه بات أعجز من أن يقاوم بالضراوة المتوقعة منه.
… وحين جاءنا خبر رحيل يوسف صايغ، الذي قاوم شيخوخته لسنوات بروحه الوثابة، وقاوم مرضه دهراً بإرادته، زاد إحساسنا بخطورة الكلمة، وزاد حرصنا على احترام الرقم، بوصفهما أخطر أسلحة معركتنا.
لقد تعلمنا من يوسف صايغ أن الحماسة تنبع من الوعي، وأن الوعي أساسه المعرفة، وأن من لا يعرف نفسه لا يمكن أن ينتصر على العدو الذي يجهل عنه كل شيء ويقاتله بالكراهية، والكراهية توأم الجهل، وكلاهما في خدمة العدو ماضياً وحاضراً.
تعلمنا من يوسف صايغ أن نتواضع في جهلنا، وأن نطلب العلم بدلا من أن نكره أنفسنا بسبب من عجزنا، فمن كره نفسه فتح الأبواب لعدوه. ومن تاه عن حقيقته لن يتعرّف إلى حقائق الآخرين، أصدقاء كانوا أم أعداء. وإن الطريق إلى المعرفة طويل، أما الانتحار فلا يحتاج الى دليل.
تعلمنا من يوسف صايغ أن الاقتصاد هو منطلق السياسة، وأن من لا يعرف قدراته لن يستطيع المواجهة، بل سيترك أسلحته لعدوه، ثم يقعي تحت شجرة هزيمته يندب حظه.
لقد كتب يوسف صايغ كثيراً. كتب محاضرات، وكتب دراسات، وكتب مقالات في الصحف، ووضع كتباً عديدة. قرأ الاقتصاد في السياسة، وقرأ النفط في الاستراتيجيا، وقرأ العسكر في أعداد الأميين وقرأ المواجهة في عدد العلماء. لكننا لم نقرأ يوسف صايغ إلا قليلاً. كان يتحدث بصوت خافت، ولكننا كنا نفضل الصراخ وضجيج مواكب الحماسة التي تأخذ إلى التيه. كان يحاول أن يعلمنا جدول الضرب، وأصول الجمع، وكنا نرد عليه بمهرجانات الخطابة حيث نغتال السياسة.
في البدء كان الاقتصاد. لكن العرب لم يتعرفوا إلا إلى الاستهلاك. وهم قد زوّروا الرقم وصدقوا تزويرهم.
حاول يوسف صايغ أن يدرّسنا أسباب قوة إسرائيل من خلال ضعفنا.. فانبهرنا بالعدو، وارتحنا إلى عجزنا فذهبنا إلى عدونا مستسلمين لنتعلم منه الحساب، متباهين بأننا قد وضعنا ذات يوم، أسس الرياضيات حين عرفنا الصفر. صار الصفر بيتنا. وبيتنا بأصفار كثيرة.
قبل سنوات وقفت مع ابن آخر لهذه الأسرة المباركة، أنيس صايغ، في قرية أم قيس على الضفة الشرقية لنهر الأردن. كانت بحيرة طبريا تتوهج تحت الشمس. ودمعت عينا أنيس صايغ الذي أرادت إسرائيل إطفاءهما برسالة مفخخة: كان مسقط رأسه في مدى النظر، لكننا بعيدون عنه كثيراً حتى لكأننا نراه بخيالنا.
كيف يتجمّع في أسرة واحدة كل هؤلاء العباقرة؟! وكيف يتجمع في كل من هؤلاء الوطنُ العربي من أقصاه إلى أقصاه؟ فايز، توفيق، يوسف… أطال الله عمر أنيس. إنهم معاً فلسطين وسوريا ولبنان ومصر والعراق والخليج والجزائر والمغرب والسودان. إنهم مصغر للأمة وقد أعطوها الكثير فكبرت بهم وكبروا بها. لم يكونوا مجرد آحاد. كانوا أرقاماً مشعة. كانوا مصابيح لغدنا.
ورود من صحراء البُعد إلى عيد الفرح
الليل اخضرّ، والبحر يمتد شريطاً من الأحلام المطرزة بالزبد، والبدر يتهالك وهو يغادر اكتماله مثقلاً بآهات العشاق التي تورد خديه.
العيد مشاع، فلا يطيق أن يُحبس في قفص الوقت وقائمة المدعوين، والفرح المنتزع من لجة اليأس لا يجوز أن يُهدر في الانتظار، فلينطلق الموكب مبكراً، يكفي أن لحظة التلاقي قد تأخرت نصف عمر.
يتقطّر الحب ندى في تلك الشقة التي يحتشد فيها الشوق واللهفة والرغبة في اختراق المستحيل. لم يحضر »جميل« عوده، لكن النشوة كانت قد تجاوزت الأنغام بإيقاعات من خارج السلم الموسيقي. البهجة كثيفة تكاد تتجاوز الشعر، لكن القصيدة لا تكتمل إلا متى حضرت »فاتن« محاصرة »بالغادتين« فلا يتبقى أمامك غير أن تبحث عن باب »النجاة«. و»صلاح« يحاول أن يؤكد حضوره بالتحالف مع »جميل« الذي استدر فرحُه مطرَه، فشربت »الخزامى« من كفي »بطرس« الذي تطارده رشميا فيحتمي بطائرات الرمل ولا مطار.
تكفي ليلة واحدة زاداً لثلاثين سنة أخرى من الشباب الذي لا يشيخ.
يتهافت المرض على قدمي الصبا، وتخترق إرادة الحياة ليل البكاء. آن للعيون أن تحتفظ بمائها. إنه الربيع.
تزهر الصحراء، ويقتحم عطر الليل تلك الغرفة التي يحتشد فيها العيد، ويطل من نافذتها القمر وقد استعاد هالة اكتماله، وترجّع نسمات السَّحَر ألحان الأغنيات التي نسيها »جميل« ولم تنسه.
الحب هو الفرح، والفرح ولاّدة الأعياد. العيد هو الناس. الناس الذين يعززون فيك الأمل، وتعزز فيهم إرادة الحياة بأبناء الحياة.
اهجر أحزانك واتبعني… تعال إلى ليلة فرح بألف عام، تعال لتر كيف تزهر الصحراء صبا بألوان الطيف وكيف ينبت البحر وروداً تعطي موجه اللون والمعنى، وكيف يضيء الليل بعيون الياسمين؟
العيد أن تحب. العيد أن تعطي الحياة المعنى فتعطيك الفرح. الحب أن تنتصر على ضعفك. العيد أن تقرر أن تصطنع دنياك بإرادتك.
… وحين صمتت أمل كان الكلام قد اكتمل!
امتد »الحوار« طويلاً بين أمل جراح والموت، حتى ملت فانطوت على نفسها وارتحلت بعدما قالت كل ما تريد أن تقوله في هذه المعابثة المعروفة النهاية.
والديوان الأخير لأمل جراح »بكاء كأنه البحر« هو اقتحام للموت بعدما أضجرها تردده، بل استمتاعه بعذاب انتظارها له، وتلذذه بخيبات التوقع. صارت الحياة مجرد محطة لقطارات تتأخر في الوصول، وليس لها غير أن تنتظر في قلب الوجع أن يسمح لها بالتحرر من قيودها والانطلاق الى حيث لا عودة.
صار الموت أليفاً. صارت اللعبة مضجرة بتكرار مشاهدها اليومية. سقطت هيبة الموت، وصار بوسع أمل أن تعنّفه، أن تطارده، أن تتهمه بالجبن والتردد. صار الموت لئيماً. ينشر شباكه من حولها على مدار الساعة، يلاغيها، يلاعبها، يفر من أمامها مطروداً لتكتشف أنه يسكنها وأنها لا تستطيع أن تخلعه.
لكنها ظلت منتصرة حتى الكلمة الأخيرة، وحين صمتت، كان الكتاب قد امتلأ حتى غلافه، وكانت المحبرة قد جفت تماماً بعدما نضبت الدموع في عيني أمل:
»أنا لصة ذكية، أسرق الحياة من موتي
»أختبئ وراء عمود الكهرباء، وراء شجرة الزيتون
»أنا الطيف عبر الورقة الذابلة
»فلا تلمحني عين ولا يراني طير..
»ها أنا مكتوبة على البياض، كلمات اثر كلمات«.
لكن هذا لا يمنع أن تكون »الوردة قد نسيت عطرها في القصيدة، وأن أرى حزني يزدهر بيأسه«. فلقد »تعوّدت أن أنام مستيقظة وأن أستيقظ نائمة.. لا آه، لا لذة في الجسد«.
وأمل التي رأت نفسها بستاناً من الرمل لا تنبت فيه وردة، وأنها ربما هي ضوء أو هواء، أو أنها ليست هنا، وأن الحياة هرة تأكل أبناءها، قد اكتشفت أن الصمت هو اكتمال الكلام… وها هي قد أكملت نشيدها، والكتاب الذي استبقاها معنا لن توقعه، لكن الهدية وصلت.
طالت المعايشة حتى صار الموت عدواً أليفاً أو صديقاً كريهاً، لكنه صار ظلها أو أنها صارت ظله، وامتدت المحاورة المعابثة حتى لم يعد لأحدهما ما يفاجئ به الآخر: لا هي تفاجئه بأنها خلفه، ولا هو يفاجئها بأن حياتها بين يديه.
»هل قلت لك مرة إنني لم أعد أبصر خيالي في المرآة؟
»ولا ظلي على الأرض
»الآن ثيابي كفني. أنا الجنازة والمشيعون
»لا أغتسل إلا بك. لا أتعطر إلا بأنفاسك الدافئة وعناقك الجميل«.
هل نقول إنها أحبت موتها الذي يعابثها وتعابثه كعاشقين يحاول كل منهما أن يسمع من الآخر الآهات الأولى؟! لعلها كانت تنتظر منه كلمة أسف، أو كلمة ندم. لعلها كانت تتوقع منه اعترافاً بأنه أحبها، فجعلها تنتظره مع أنفاسها، نفساً نفساً، وظل يرقبها منتشياً بوجعها الذي لم يشأ له أن ينتهي إلا بعدما كانت قد ألفته حتى النسيان!
»وإذ يحط عصفور على حافة النافذة/ يتأملني/ أفتح يدي فيلتقط شامة في راحة كفي/ يظنها حبة قمح/ يرفرف خائباً، ويبتعد.. فأبكي«!
تخاف النوم لأنه طفل الموت، ويخاف صحوها الذي سيضج بالسؤال المكرور: »ألا يموت الموت… لكنه يصبر عليها حتى تفرغ يدها التي ترتجف وراء أقلامها، وحتى يصبح كل هذا الصبا عصا تتكئ على عصا، تميل في مهب الريح، وإذ تنهض لا تنهض«؟! »أتراه مصابا بالشيزوفرانيا، هذا الموت؟! وهل هو وضيع بحيث يتلذذ بمن يستهلك ظمأها، ولا يتسع قلبها لدمائه«؟!
لقد جاءت عتمة البياض، بعدما كتبت أمل للحياة النشيد الأخير.
ولقد تزاحم الأصدقاء على فتح نوافذ الأصوات، ودثروها بالأغنيات التي أحبتها، ثم انصرفوا وهم يتساءلون: ترى هل مات الموت أيضاً؟
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
مَن قال إن للحب خاتمة؟ مَن تجرأ على توصيف الحب بأنه مرحلة من عمر، وحقبة بين حقباته؟!
أعجب لمن افترض أن إنساناً يمكنه أن يعيش على حافة الحب، في انتظار الوصول، أو خارجه بعدما تخطاه.
الحياة أن تحب. احذف تلك الأيام التي عشتها خارج الحب، إنها ليست من عمرك. عمرك الحب ولو احتسبته على أصابع اليدين.