عن الصينيين في يومياتهم داخل الحزب وفوق الدراجة!
… وقالت زرقاء اليمامة لقومها: تأخذني الحيرة في ما أرى، فإما أن الشجر قد ملك القدرة على الحركة فأخذ يتقدم نحوكم، أو ان »عدوكم« يمشي إليكم متستراً بالشجر… الحذر، الحذر أيها الناس!
ضحك القوم من زرقاء اليمامة التي كانت ترى غالباً ما لا تصل إليه أبصارهم، وأنزلوها من قلب الأسطورة، وانصرفوا عنها يتابعون اللهو والسمر حتى دهمهم »العدو« فأعمل فيهم سيوفه فندموا، ولات ساعة مندم!
* * *
المسافة طويلة جدا، والدراجة بطيئة، لكن الراكب أو الراكبة لا يكف أو هي لا تكف عن التحرك إلى حيث المقصد.
آلاف، عشرات الآلاف، مئات الآلاف، ملايين، عشرات ملايين الصينيين يمتطون دراجاتهم الرخيصة ويتحركون في مختلف الاتجاهات، على مدار الساعة.
كل الطرق مقسومة، في الاتجاهين، إلى شارع رئيسي وآخر جانبي للدراجات: كهول وفتية، نساء حوامل وصبايا، يعرفون وجهتهم جيدا، ويقصدونها بلا تأفف وبلا نظرات حسد أو »حقد طبقي« إلى راكبي السيارات »الفخمة«، ولو كانت »فولكس فاكن« الألمانية التي تكتسح شوارع المدن الصينية، والتي تُعتبر امتيازاً لراكبها ولو كانت سيارة أجرة. الأسود للسيارات الرسمية، بطبيعة الحال، والألوان الأخرى لذوي الدخل المرتفع نسبياً.
أمام كل مبنى حكومي، كل شركة، كل متجر كبير، وفي كل سوق، تتراصف مئات الدراجات، وكذا أمام المدارس والمعاهد والكليات.
الصين على دراجة، ربما، لكنها تتحرك باستمرار، إلى الأمام.
والصينيون فقراء بغالبيتهم، لكن الأساسيات كالسكن والتعليم والتأمين الصحي (الطبابة والاستشفاء) مؤمنة بتكاليف زهيدة، نسبيا.
لا شرطة في الشوارع، لكن المباني الرسمية والفنادق والشركات والمؤسسات جميعا جيدة الحراسة. عند الباب ينتصب في العادة حارسان كتمثالين لشدة انضباطهما… وفي بعض الأماكن المكشوفة يقفان متعاكسين.
الانضباط هو القاعدة، ومعه التهذيب البالغ واللطف الذي يربكك فلا تعرف كيف ترد التحية بأحسن منها.
المجتمع شرقي السمات، والرجال قوامون على النساء.. في الخارج، أما داخل البيت فالسيدة هي »السيد«.
والمجتمع شديد المحافظة، والعائلة ما زالت على تماسكها، والتراتبية مراعاة تماما.
لا عاطل عن العمل في الصين. ومنذ الثورة الشيوعية نزلت النساء إلى ميدان العمل جميعا.
ولكن أين هي العائلة الآن ومع القرار القاسي بتحديد النسل بولد واحد، إن كان ذكراً، وبمولودين اثنين إن كان الأول بنتاً؟.. والمخالفات مستحيلة في المدن، لكنها مألوفة وتتسبب في إشكالات جدية في الأرياف.
أين العائلة؟ يقول الصديق الصيني والابن الوحيد لا أخ له ولا أخت، وبالتالي لا عم له ولا خال (إلا بالمصادفة، وإذا كان الخال ثاني مولودين أولاهما بنت)، إنها عائلة رأسية: الأب، الابن، ثم الحفيد الوحيد، وغالبا ما يفسد الدلال الولد الوحيد، إذ تنصب عليه عواطف الأسرة جميعا: الوالدين والجدين للأب والجدين للأم؟! وبين النتائج المباشرة لقرار تحديد النسل أن العديد من الشابات والشبان عزفوا عن الزواج.
الطلاق؟! كان أقل في الماضي، وقد تزايدت الحالات بعد الانفتاح. زاد دخل بعض العاملين، أو بعض العاملات في الشركات المختلطة (الجوين فانشر)، فصار الكل يتطلع الى الأعلى، والزواج من »هذه الطبقة الممتازة« أقصر طريق إلى زيادة الواردات! يتودد الموظف إلى سكرتيرة المدير، أو تتودد السكرتيرة الى مديرها، وتحت ستار حب المصلحة هذا يكتشف الزوج أن زوجته »القديمة« أفقر مما يجب، أو تتطلع الزوجة الى مَن هو أعلى دخلاً من زوجها »الحالي« فيتم الطلاق متسبباً في العديد من الإشكالات وربما المآسي الاجتماعية.
في حال الطلاق يتقاسم الزوجان ما يملكان لأنهما قد اشتركا أصلاً في توفيره، فالمرأة تعمل وهي ذات دخل كما الرجل، والطرفان شريكان، فإذا ما فُضّت »الشركة« عاد إلى كل نصيبه منها.
الصين تنام مبكرة. لا سهر، ولا ارتياد للفنادق الحديثة التي أتى بها الانفتاح. إنها، بأسعارها الفاحشة في مطاعمها ومقاهيها، فوق طاقة راكب الدراجة. والمواعيد تعقد، عادة، خارج البيت. البيت الصيني العادي أضيق من أن يتسع للضيوف. ولا مقاهي، بل ثمة ما يشبه »البار« أو »البب« الإنكليزي، يتلاقى فيه من بينهم عمل. لا وقت للهو. خمسة أيام ونصف يوم في الأسبوع للعمل، والدوام ثماني ساعات.. والطريق طويلة على راكب الدراجة.
الصيني ريفي، بعدُ، حتى في المدينة: بسيط، طيب، صادق وبالغ التهذيب.. ولا يقبل »البقشيش« مهما كانت درجة فقره.
* * *
ملايين، عشرات الملايين من الريفيين نزلوا، بعد دهر من العزلة، إلى المدينة فبهرتهم.
كان الصينيون دائما وراء سورهم العظيم، يعيشون حياتهم وهم يفترضون أنهم بغنى عن الآخرين. إن بلادهم المنداحة فوق بضعة ملايين من الكيلومترات المربعة، والتي يختلف التوقيت بين أطرافها اختلافاً بيّناً، كما يختلف الطقس بين بضع درجات تحت الصفر وبضع درجات فوق الأربعين، تغريهم بالانطواء داخلها، مستغنين عن الآخرين، مكتفين بأنفسهم.
والعزلة تستولد الريبة بالآخر. والتجارب التاريخية علمتهم أن يحذروا البحر، وبالتحديد العدو التقليدي أو التاريخي، اليابان، وهي قد غزتهم فاحتلت بعضاً من الصين أكثر من مرة في التاريخ الحديث، أما القبائل المنغولية فلطالما أغارت على الداخل الصيني قاصدة أن تصل إلى البحر، ولعلها كانت هي السبب في بناء سور الصين العظيم الذي مات في بنائه من الصينيين أكثر مما كان يمكن أن يموت في حروب عدة.
بعد الثورة الشيوعية انفتحت الصين على »الشقيق أو الرفيق المؤسس« الاتحاد السوفياتي ومعه المعسكر الاشتراكي، وأسندت ظهرها إليه مطمئنة إلى أن الغزاة لن يأتوا مرة أخرى، وأن بوسعها أن تنصرف الى بناء ذاتها.
لم يطل شهر العسل بين الرفاق في العقيدة لأكثر من عشر سنوات إلا قليلاً… ففي عهد خروتشوف، الذي اعتبره غلاة » » »الحرفيين« من الشيوعيين منحرفاً ثم خلعوه، بدأت الإشكالات التي كانت جذورها كامنة في اختلاف التوجه (إلى العمال، أم إلى الفلاحين؟)، ثم فاقمتها »الحساسيات الوطنية«، فتم الانفصال عقائدياً ومن ثم سياسياً، وقد طالت القطيعة حتى مجيء ميخائيل غورباتشوف ونظرياته الانفتاحية (الغلاسنوست والبيريسترويكا) فتمت المصالحة وتجدد اللقاء، ولكن بين دولتين غريبة كل منهما عن الأخرى… ثم زادت الغربة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره، وساد في الصين جو من الإشفاق على الروس الذين خسروا مرتين.
الدهشة لا الانبهار، والاعجاب أكثر من الشعور بالدونية..
الريفيون في المدينة الحديثة. لم يكونوا يعرفون. انه عالم جديد، كل شيء فيه لامع وله بريقه الخاص. يا لفداحة ما ضاع من الزمان، يا لاتساع المسافة بين عالم الدراجات وعالم الطائرات الأسرع من الصوت.
لكن راكب الدراجة عنيد وهو لا يكف عن الحركة. لا بد من حل لتعويض ما ضاع من الزمن الثمين، ولمحاولة اللحاق بالسابقين. لا بد من التعلم. لا بد من قبول الأجنبي، سواء أكان العدو التقليدي، اليابان، أم الأميركي الذي افترض ماو تسي تونغ أنه سيكون نموذجاً »للوطني الديموقراطي« بالقياس إلى البريطاني الامبريالي، والذي رأى في إبراهام لنكولن نموذجا له فاختلف الأمر مع الذين أتوا بعده، وتقدم حتى على البريطاني فألحقه به متصدراً »الامبريالية« ومطوِّراً في وظيفة المال وفي وجوه استخدامه ومبتدعاً »الرأسمالية المتوحشة« و»العولمة« كوسائل وأسلحة فتاكة »لإنهاء التاريخ« وحسم »صراع الحضارات« لمصلحة الأقوى وليس لمصلحة الأعرق أو الأفضل.
يتحلى راكب الدراجة بتواضع المهزوم. لكنه لا يسلم بالهزيمة كقدر.
حسناً، لقد سبقنا الآخرون أشواطاً، وهم الآن أكثر تقدماً منا بما لا يقاس، ونحن متخلفون. هذه حقائق. لكننا نستطيع استيعاب هذا الواقع ومن ثم تجاوزه. لا بد من أن نواجه التحدي. سنشتري ما ينقصنا ثم نتعلم كيف نصنع مثله، ولو دفعنا غالياً. ليأتِ الأجنبي، وليربح، ولا بأس من شيء من التساهل معه وتخفيف القيود، عقائدياً، وبالتالي سياسياً واقتصادياً… وبالاستطراد اجتماعياً.
* * *
} قالت السيدة الصينية رصينة الجمال والكلام والإيماءات: نعم، أنا شيوعية، لا بد من أن أكون شيوعية، وإلا لواجهت ضيقاً في عملي التجاري. البطاقة مفيدة، بل هي ضرورية. وأنا أحاول باستمرار أن أوفق بين موجبات البطاقة وبين الشروط الملائمة لعملي. تجربتي حتى الآن ناجحة.
} وقال الرجل الهادئ جداً، الخافت الصوت، والذي يعرف بعض العرب، إن له تجربة عملية مع »شركائه« في البعض من أقطارهم، بحيث يلخصهم بنكتة جارحة بقدر ما هي »واقعية«، إذ تستخدم الأحرف الثلاثة الملخصة لشركة »اي. ب. ام« الشهيرة لثلاثة تعابير عربية مألوفة جداً: »أي« تعني »إن شاء الله«. و»بي« تعني »بكره« و»أم« تعني »معليش«.
قال الرجل الهادئ: أنا شيوعي ورجل أعمال. ولا أجد غضاضة في اعتماد الأساليب الرأسمالية في عملي. لم يتوقف »شركائي« المسلمون كثيراً أمام شيوعيتي، كان ما يهمهم نسبة الربح في استثمارنا المشترك.
} وقال الرجل الظريف الذي يعرف الفرنسية ويتباهى بها على أقرانه الصحافيين: نعم، ما زلنا شيوعيين على أن صحفنا باتت محكومة أكثر بأن تسعى إلى التمويل الذاتي بالإعلان عن البضائع الاستهلاكية، كما في بلاد الغرب. طبعا ما زالت القيود ثقيلة على الإعلانات، لكننا نراعي قدرات شعبنا والإمكانات المالية لمواطننا.
} وقال الصحافي القديم الذي نسي متى انتسب إلى الحزب الشيوعي:
لا تخافوا على الصين. الحزب هو القائد وسيبقى. وكل ما تمّ ويتم إنما بقرار من الحزب بمختلف هيئاته القيادية. الصين أكبر من أن يمكن ابتلاعها، والحزب متجذر في الأرض. لقد أعاد الحزب خلق هذه البلاد التي كانت خارج التاريخ، قبل خمسين سنة. تمّ الانفتاح بقرار مدروس، والخطوات محسوبة جيداً…
وحين سلّمنا نسخة من الجريدة التي يتولى مسؤولية بعض أقسامها ولاحظ دهشتنا أمام عدد صفحاتها الضئيل (6 صفحات)، وأمام طبيعة المادة فيها وتوزعها بين المحلي والدولي (صفحة واحدة)، وأمام استمرارها على ما كانت عليه قبل الانفتاح، قال بلهجة الواثق من صحة موقفه التاريخي: لا بد من شيء من التدرج في التحول. نحن مسؤولون عن شعبنا. القفزات المفاجئة ليست مستحبة.
} وقال الرجل الصارم الملامح، والذي صار صديقا بعد ثلاثة أيام من النقاش المتقطع والملاحظات والمقارنة السريعة: نعم ما زال الشباب الصيني يقبل على الانتساب الى الحزب. لم يتأثر الانتساب بسياسة الانفتاح. في المدارس الثانوية يتم تعرف الطلاب إلى الحزب ومن ثم الانخراط فيه. طبعا هناك حالات تفلت، لكنها محدودة. يحب الشبان أن يقلدوا الأميركيين، وقد يقصدون مطاعم »ماكدونالد« و»كنتاكي«، وقد يحبون أن يرقصوا على إيقاع موسيقى الجاز… لكن مجتمعنا محافظ، والعائلة متماسكة، والحزب ساهر، والصين كبيرة جداً.
} أما الدليل الذكي فقد لخص النقاش بقوله: تعوّدنا ألا نتوقف عن الحركة. أنظر الى راكبي الدراجات. من توقف سقط. البعض يسمينا »النمل«… البعض يفضل أن يسمع أننا مثل »النحل«، لكننا لسنا في خدمة »الملكة«، كلنا في خدمة الصين وغدها.
في هونغ كونغ يمكنك أن تمتحن ما سمعته، أو رأيته ولو سريعا، في كل من بيجين ونانجين وشنغهاي وعلى الطريق بينها جميعا.
وهونغ كونغ برغم عودتها إلى الوطن الأم ما زالت بعيدة عن المليار ومئتي مليون صيني. كيف يكون الستة ملايين على مثل هذه الحيوية والعصرية والبراعة والدأب لولا أنهم صينيون؟!
على أن ذلك حديث آخر عن »الشجر« في حكاية زرقاء اليمامة.
وشعب »هوا« أي شعب الصين يتقدم تحت شجرها الكثيف، ولو على دراجة تحاول اللحاق بالطائرات الأسرع من الصوت..
قصص مبتورة!
قال لها: أقرأ في عينيك كتاب عمري، فيأخذني الزهو حتى أكاد أنسى الزمان والناس… لم أعرف نفسي جزِل العبارة، متدفقاً، شاعري الاعطاف إلا حين قرأتني فيك.
أضجرتها الفصاحة فقالت: أما آن وقت الكتابة؟! أما أنا فلا أحب أن أرى في عينيك غيري وكفى!
* * *
وقف يتأمل عاشقين من اليابان.
قال لصديقه: أترى الشعراء هناك يعانون صعوبة في إبداع الغزل؟! لا أهداب ولا رموش، والعيون المشقوقة لا تتسع للكثير من الخيال!
قال الصديق وهو يتنهد: للحب لغته. حبك يمنحك اللغة، ويعطي حبيبك الملامح التي تحب. اللهم امنحنا نعمة الحب لنرى.
الحب أعمق أثراً من العقائد، ولغته لا تتوقف لتناقش الاختلاف بين المذاهب.
قال العاشق الشيوعي: يا نجمتي.
ردت العاشقة الرأسمالية: يا قمري.
وقال العذول الذي لم يعرف لنفسه هوية: الحمد لله أنهما تركا لنا الشمس لعلها تنير طريقنا إلى الحب الأرضي.
* * *
قالت المرأة العجوز: لنشرب ذكرى هذا العمر الطويل من الحب… اثنان وستون عاماً وما زلنا نطلب المزيد.
قال الرجل وهو يستند إلى الطاولة: ليس للحب ذاكرة، هو الحياة. ليس للحب عمر، هو العمر. سنعيش بقدر حبنا.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
إن كنت محباً فلا تخفْ على حبيبك من غيرك. يخاف مَن يستشعر نقصاً في حبه فيعوّضه بالغيرة. الغيرة تنهش الحب نهشاً، وتنهش المحب فتبعده. ليحب كل الناس حبيبي. إنهم يزيدون من ثقتي بنفسي، لأن حبيبي قد اختارني وجعلني كلهم.
طلال سلمان