كلُّ فرد متعدّد الهويات. كلُّ مجتمع متعدّد الهويات. ورد في قاموس المعاني أن هوية الإنسان هي حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية، وأن للهوية الوطنية معالمها، وخصائصها المميزة، وأصالتها.
الغريب في الأمر أن أصل كلمة هوية يعود إلى “هو”، أي الغير أو الآخر. فكأنه يُراد تعريف الفرد أو الجماعة بغيرها، وليس بما هي عليه. وهذا يقود إلى أن يُعرّف الواحد نفسه بالتمييز عن غيره، وأنه يكتسب معنى شخصه من هذا الغير. من الغير لا من النفس. تكمن خطورة الهوية في هذا التضاد. لكن ما يفهمه الناس من التعبير هو أن الهوية تُعرّف صاحبها، وتحدد إلى حد كبير انتماءه السياسي والثقافي.
معظم الهويات مُعطاة، فهي إجبارية وحولها تدور العصبية. فعندما تقول أنك متعدّد الهويات، فذلك معناه أن هوياتك المجتمعة فيك يُمكن أن يكون مبعثها الدولة، أو الوطن، أو الأمة، أو القبيلة، أو العشيرة، أو الحرفة، أو الميل الجنسي، أو الهواية، أو الناحية الجغرافية التي أنت منها، أو الثقافة، أو اللغة، أو اللهجة، أو القومية، أو الإثنية، أو الجمعية التي أنت عضو فيها، أو الطائفة، أو المذهب، أو الفرقة الصوفية، أو الطبقة الاجتماعية. معظم هذه الهويات إجبارية. فهي مما يُعطى لك عند الولادة، ويصير مصدراً لآرائك، ومواقفك، واتجاهك (اتجاهاتك) السياسي، وغيرها. وقليل منها اختياري، بمعنى تختاره لنفسك. ربما يجدر الذكر أن بعضها مما هو معطى يصير مصدر عصبية تماثل الغريزة في شدة أثرها. لذلك سُميت “هويات” قاتلة، إذ يتحارب الناس ويتقاتلون من أجلها، أو لجعلها أولوية للذات بفرضها على الآخرين.
أخطر الهويات هي المعطاة منذ الولادة، والتي لا تكون اختيارية، إذ تحمل معها قداسة كأنها معطاة من الله. وقليلة هي الهويات المختارة بعد الولادة، خصوصاً مع النضوج الفكري. فهذه تكون أقل أهلية للعصبية، أو هكذا نظن، وغالباً ما ترتبط بما هو سياسي. المجتمع ممكن بالسياسة، وهذه غالباً ما تكون عقلانية، تتعلق بالتسوية والعيش سوية لا بأفكار ورؤى يُراد بها أن تفرض على الغير، إذ يعتبرها أصحابها مصدر الحق والحقيقة. لا أخطر من هوية يربطها أصحابها بالمقدس والحقيقة، فيجدون أن من الواجب التبشير بها، مما يؤدي بهم إلى القتال من أجلها أو دفع الآخرين إلى ذلك. إذا كانت الهوية، أو صارت، بحاجة إلى توسّع دائم للإكثار من أتباعها، فهي تصير مثل الرأسمال المالي أو الإنتاجي، الذي يحتاج دائماً إلى أن يصير أكثر، ويتوسّع عن طريق المنافسة أو الإحتكار. المعلوم أن التوسّع الإمبريالي صار حاجة مع التراكم في الغرب الأوروبي، ما دفع إلى مزيد من الحروب. والحروب أكثر قتلاً ونهباً وتدميراً للشعوب التي أُجبرت قسراً على الخضوع. الرأسمال الهوياتي لا يقل فداحة. وقد ربطت الإمبريالية السيطرة أو الهيمنة بالهويات، ما سهّل لها التباهي بالتفوّق العرقي. وهو هوية معطاة أو هكذا يتوهّم أصحابه.
العنصرية هي أشد الهويات فتكاً، كما نرى من نتائجها في فلسطين، التي تعرضها الصهيونية إلى حرب إبادة. تترادف العنصرية والصهيونية، وهما من أشنع ما أنتجته الثقافة الغربية.
تُشكّل العروبة أساساً للهوية، وهي ليست قومية أو إثنية، بل تستند إلى اللغة العربية، إذ لا نجد تعريفاً لها إلا بمن يقول عن نفسه أنه عربي. وفي غالب الأحيان يقول متكلمو العربية أنهم عرب، وهذا ما يُقرّر عروبتهم دون أن تكون لذلك بالضرورة صلة بقبيلة أو أصل في الجزيرة العربية. فغالبية العرب صارت لهم تلك الهويات دونما اعتبار للأصل، أي مهما تكون أصولهم الإثنية. هذا مع العلم أن كثيرين منهم يحبون أن يكون لهم نسب عربي، وبعضهم يخترع ذلك ولو وهمياً. للأمر علاقة بالنزوع إلى الوحدة العربية، لكن الغالبية تردها إلى قومية عربية أساسها وجود أمة عربية يُعتقد أنها موجودة، حتى ولو لم تتحقق دولتها. وهي، كما يقال عنها، فكرة سياسية، وتشتد حسب الظروف الجيوبوليتيكية.
العروبة شيءٌ آخر. هي هوية متعمقة الجذور في أعماق الوجود العربي، حتى لتكاد أن تكون غريزة معطاة عند الولادة، ليس فقط لأنها معطاة ولأن الواحد منا يُربى عليها، بل أيضاً بسبب اللغة. فأنت ولدت على اعتبار أنك عربي، وكبرت وأنت تتحدث بها، سواء الفصحى أو العامية، علماً بأن ألفاظ هذه معظمها من الفصحى، فالعروبة عمقها في الوجدان عمق الحياة في تساويهما، وليست فكرة تزيد وتنقص أو رداء تلبسه أو تخلعه، بل هي بمثابة الوجود الذي تعتبره متلازماً مع الحياة. لا يموت إلا بموت صاحبه. فهي بمثابة الوجود (العربي) الذي تعبّر أو لا تعبّر عنه قضية. والقومية العربية هنا قضية مهمتها التعبير عن هذا الوجود. وإذا أصابها شيء فخفّ بريقها، فإن العروبة وجود يجد من أراد ما يعبر عنه، أو لا يجد، فالأمر سيان. والتخلص من القومية يكون بمثابة تخلص من فكرة يقتنع صاحبها، قسراً أو طوعاً، بها أو بغيرها. أما العروبة فهي مما لا يمكن الخلاص من صاحبها إلا بالخلاص منها أو بالعكس. القومية مسألة للنقاش. تخبو عندما يهدأ النقاش. مربوطة بالسياسة. حتى يقال أنها فكرة ظهرت مع القوميات الأوروبية، التي حُدّد ظهورها في القرن الثامن عشر، واستوردت مع الإمبريالية. بينما اللغة العربية، المعبّر الوحيد عن الوجود العربي، فهي قديمة قدم الشعر الجاهلي، وأقدم من ذلك بكثير. إذا كانت القومية العربية حديثة الوجود كما يقولون، فإن العروبة قديمة قدم الوجود العربي. عُبّر عن هذا الوجود بالشعر، إذ كان هو اللغة العليا للتعبير.
الخلط الذي لحق المسألة هو ربط العروبة بالأمة، وأخذ القومية العربية في القرون الحديثة من الأمة. وهذه يمكن أن تكون أمة عربية أو أمة إسلامية، وما أكثر ما استخدم تعبير الأمة الإسلامية والعربية في العقود الأخيرة، على ما في ذلك من خلط بين ما هو سماوي ودنيوي. العروبة تلازم المرء دنيوياً ولا علاقة لها بالسماء، إلا بمدى الإيمان الديني. هذا حق للجميع. والعروبة تعبير لا علاقة له بالأمة، التي يلتبس معناها. وهي في جميع الأحيان كيان (أو قضية) سبقه الوجود، ذو استعلاء، وغير مضطرة للتجسّد إلا متى سنحت الظروف وأراد ذلك أصحابها.
ليست العروبة بحاجة الى أمة. هي بحاجة فقط إلى دولة أو دول. يُمكن أن تتوحّد أو لا تفعل ذلك. ولا يجب أن يتحقق الأمر إلا بإرادة أبنائها وعن طريق الدولة. أصحاب فكرة الأمة ما تعودوا احترام مفهوم الدولة، وما نظروا إلى هذه إلا على أنها كيان عابر أو مصطنع. وفي ذلك كان مقتلنا السياسي. مهما كان النقاش ومؤدياته، يتوجب علينا أن نعمّق الدولة في وجودنا (عروبتنا) سواء كانت قطرية أو أكمل من ذلك، وأن نبني الدولة سواء نشأت بالغلبة أو بعقد اجتماعي. وجميع دولنا تقريباً نشأت بغلبة الاستعمار، واستمرت بغلبة الطبقات التابعة له بشكل أو بآخر. لكن الدولة ستكون في النهاية وبنتيجة نضال ساكنيها للمجتمع لا لمن حكمه، وستكون إطاراً ناظماً للمجتمع إذا قُيض للإثنين البقاء. وستتحقق الوحدة عبر الدول لا عبر غيرهم. فمن تحدث عن وحدة الشعوب غاب عنه أنها مُحقّقة، ولولا ذلك لما كان الكلام. وكان انتشار ثورة 2011 كالنار في الهشيم بين جميع أركان الوطن العربي دليلاً على القول.
أما الأقليات الدينية والإثنية والقومية، فلها الحق في الحكم الذاتي أو حتى الانفصال متى شاءت. بناء الدولة القطرية لتصير دولة بمعنى الحداثة، وليصير سكانها مواطنون بمعنى أصحاب شراكة في الدولة، لا رعايا خاضعين لسلطتها، ضرورة تستدعي الاحترام. مجتمعاتنا قديمة قدم التاريخ، لذلك فإن التعددية فيها بجميع أنواعها متأصلة. وعلى الأكثرية الحفاظ على هذه التعددية بأكثر أشكالها السياسية وضوحاً، وكما يريد أصحاب الأقليات. إن ما تعانيه منطقتنا ومجتمعاتها بسبب الظروف الجيوسياسية يجعلها قضية عالمية في نضالها منذ الكولونيالية. لقد صارت غزة، وفلسطين كذلك، قضية عندما كشّرت الصهيونية عن أنيابها، وملأت قوى الغرب الامبريالية ترسانتها بأكثر ما تحتاجه لشن حرب إبادة جماعية على فلسطين. وتحاول الدول المحيطة بالعرب ابتلاع مناطقهم. وقد بدأ ذلك منذ عقود. وربما استطعنا تصنيف لواء إسكندرون وعربستان في هذا الإطار. للأسف لا تحافظ الدول المحيطة بالعرب على التعددية التي يرى العرب فيها جزءاً من طبيعتهم.
منذ أكثر من عقد من الزمان، حدّدت للصديق أحمد الغز العروبة بالانتماء، ثم قادني التفكير بالعروبة إلى جعل الانتماء إليها جزءاً منها، بل إقراراً بما هو موجود. ومن ينكر هذا الوجود هو بمثابة من يشن حرب إبادة ضد شعب العروبة.
يستطيع الذين يتلاعبون بالهوية الحديث عن القومية العربية، صعوداً أو هبوطاً، لمصلحة دين سياسي. ويؤرخون لذلك وهم عرب أو مستشرقون، ليصنعوا من الهوية ما شاؤوا. لنا هوية تعلو على كل الهويات، وهي العروبة.
من الطبيعي أن يكون لكل فرد وكل مجتمع هويات متعددة، كما قيل في بداية هذا المقال، لكن الهوية العربية هي الجامع لكل ذلك في إطار واحد، سواء كان ذلك في دولة قطرية نسعى لبنائها أو دول قطرية تسعى هي للوحدة بدفع من شعوبها.
مهمتنا جعل العروبة تستعصي على العصبيات، وذلك ببناء دولة (دول) يكون فيها الناس مواطنين لا رعايا.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق