كأن “العرب” اليوم يعيشون، مرة أخرى، مأساتهم التي بعثرت صفوفهم وحطمت احلامهم وفرضت عليهم أن يعيشوا خارج الزمن وخارج تمنياتهم بالواقع المر الذي فرض عليهم التقسيم والتشطير والتباعد والتنافر، تحت عنوان “اختلاف المصالح” إلى حد التنابذ مما سهل على القوى الاستعمارية الوافدة تقسيم بلادهم وتوزيع “الرعايا” تحت رايات عديدة.
صارت “الامة الواحدة” دولا شتى لشعوب متنابذة وتحت “قيادات” خلقها المحتلون الجدد، بريطانيا وفرنسا، بما يناسب مصالحهم.
تدريجيا حلت الطوائف والمذاهب محل وحدة “الشعب” ووحدة الاهداف التي كان يمكن اختصارها بالوحدة في ظل الاستقلال، او الاستقلال كخطوة حاسمة نحو الوحدة..
..واستولدت الدول العربية، اقله في المشرق، قيصريا، وتم توزيعها، بين المستعمرين الجدد، بريطانيا وفرنسا، من دون أن تكون للامة قيادة مؤهلة تستشرف المستقبل، وتبتدع بوحدة قرارها، ووحدة مصالحها، القرار برسم الطريق للخروج من ليل التبعية والاسترهان إلى افق الحرية والوحدة، استناداً إلى المصالح الوطنية- القومية المشتركة في الوحدة باعتبارها الطريق إلى المستقبل الافضل:
*****
استولد لبنان، كدولة، قيصريا.. بتحويل “المتصرفية” التي كان الغرب (ودائماً فرنسا وبريطانيا) قد “ابتدعتها” ليخرج لبنان من العرب وعليهم والتصرف معه وكأنه “بروفة” لدولة تقوم على اساس طائفية، توزع الرئاسات والوزارات والادارات حصصا وسط مشاعر متنابذة تصلح لاستيلاد حرب اهلية بشعارات طائفية في أي وقت.
وابتدعت امارة شرقي الاردن لتكون جائزة ترضية للاميرعبدالله ابن الشريف حسين (الهاشمي)، الذي كلف بإطلاق الرصاصة الأولى من موقع عرشه في الحجاز لتكون ايذانا بانطلاق الثورة العربية الكبرى.. بترتيب بريطاني لعب فيه الموفد الخاص والضابط لورنس، الذي سيشرف على تنفيذ تقسيم المقسم إلى دول شتى. بينما حصلت فرنسا بإشراف الجنرال غورو على لبنان والاخطر سوريا.. التي شعرت باريس انها لن تستكين فكان قرارها بتقسيم الارض السورية، بعد سلخ الاردن ولبنان منها، إلى ثلاث “دول” على اساس طائفي ومذهبي وعرقي، مع احتمال أن تضاف اليهم “رابعة”.
بعد ذلك سيضيف البريطانيون انجازاً ثانياً لاسترضاء الاسرة الهاشمية بنقل فيصل الاول من عرش دمشق (وبعض لبنان) إلى عرش العراق..
.. وهكذا تصير “الترضية” كافية للشريف حسين الذي نفي، في ما بعد إلى قبرص، ليكون لأبنائه “عرشان” بدل “عرشه” الواحد.
اليوم، وبعد حد أدنى من التدقيق، يمكن اعتبار كل هذه الكيانات التي استولدت على عجل التمهيد الفعلي وعلى الارض لتحقيق “وعد بلفور” في 2 تشرين الثاني 1917، وهو وزير لخارجية بريطانيا، لإقامة الكيان الاسرائيلي” فوق ارض فلسطين.
على هذا فلم يكن تقسيم المشرق العربي إلى دول شتى تحقيقا لمطلب “شعوبها” في الحرية والاستقلال والوحدة.. بل على النقيض تماما بخلق واقع جديد يجعل من هذه المساحة من الارض العربية دولاً شتى، متنازعة جغرافيا وتاريخيا وسياسيا، يشكل التمهيد العملي لإقامة “دولة اسرائيل” فوق ارض فلسطين.
*****
لقد تم تجاوز المشروع القومي، الذي كان حلما، فصار “اسطورة”، وخلق واقع جديد بقوة الضعف العربي والسلاح الغربي، وتُركت فلسطين للاستعمار البريطاني الذي جعل مستقبل شعبها رهنا بحاجة المشروع الصهيوني إلى “الارض” اللازمة لتحقيق حلم الحركة الصهيونية بإقامة الكيان الاسرائيلي كدولة فوق ارض فلسطين، بينما سائر العرب في المشرق يجهدون لرفض هذه الخطط والتقسيمات فيعجزون.. او تغرهم وجاهاتهم العروض والكراسي فيقبلون مستسلمين.
..ولسوف تكون الحرب العالمية الثانية الموعد الذهبي لمباشرة العمل لتحويل العصابات الصهيونية المقاتلة ضد الفلسطينيين في ارضهم إلى “نواة لجيش الدفاع الاسرائيلي” الذي سيتم رفده لاحقا بآلاف بالمجندين في صفوف الجيش البريطاني ، اساسا، ومعه فصائل محددة في الجيش الفرنسي كما بين “المتطوعين الروس” في الحرب العالمية الثانية النواة الصلبة “لجيش الدفاع الاسرائيلي.
كما ستكون عواصم القرار هذه، اضافة إلى الولايات الاميركية المتحدة التي دخلت الحرب متأخرة، هي الاصوات المؤثرة التي ستمنح الكيان الاسرائيلي شرعيته الدولية… بينما الدول العربية يتباكى مسؤولوها على ضياع فلسطين بالخديعة الجديدة.
*****
هذه نتف مبتسرة من تاريخ هذه المرحلة التي اسقطت الاحلام العربية بالوحدة والتقدم، واخضعتهم لهزائم متعددة حتى تمكن منهم الذل وقامت “دولة اسرائيل” على أنقاض احلام العرب بالوحدة والتحرر وبناء الغد الافضل.
ولقد جرت محاولات جدية للخروج من هذا النفق المرعب، لكن “الغرب” المتحالف عضويا مع العدو الاسرائيلي سرعان ما ضرب هذه المحاولات عبر محطات عديدة، ابرزها: العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا مع اسرائيل) على مصر جمال عبد الناصر.. وهو عدوان لم يحقق اهدافه بل ادى إلى نتائج عكسية تماما: هب الشعب العربي في مختلف اقطاره متضامنا مع مصر، وقرر آلاف الشبان في مختلف الاقطار العربية الذهاب إلى التطوع في الجيش المصري دفاعا عن الامة العربية جميعاً، وحماية لمصر من هذا العدوان الثلاثي الذي جمع في سلة واحدة قوى الاستعمار القديم مع العدو الاسرائيلي الوافد حديثاً إلى المنطقة كمقدمة لمشروع اعادة الهيمنة الاجنبية واذلال الامة العربية، والتمكين للكيان الاسرائيلي.
*****
بعد ذلك ستتوالى “النكسات القومية”
- انفراط عقد دولة الوحدة العربية التي قامت تحقيقاً لحلم عربي جسدته في لحظة تاريخية فاصلة (21 شباط 1958) بإقامة “الجمهورية العربية المتحدة”: من خلال اندماج مصر وسوريا في دولة واحدة تحت قيادة جمال عبد الناصر، وبموقف مشرف للشعب السوري الذي اقبل على هذه التجربة السياسية الفريدة بحماسة شديدة.
*****
لم تتوقف الانتفاضات العربية، بعد ذلك، فسرعان ما قام الجيش في اليمن بخلع الملك الابدي الامام يحيى حميد وولي عهده الامام احمد الذي لم يتسن له أن يتسلم الحكم، فلجأ إلى السعودية، التي حاولت اسقاط “جمهورية اليمن” الجديدة”.. الا أن جمال عبد الناصر هب لمناصرة شعب اليمن سياسيا وعسكريا واقتصاديا.. وذلك حديث اخر.
وقع ذلك بينما الجزائر تحتفل باستعادة هويتها وحريتها بعد ثورة مظفرة امتدت لثماني سنوات طويلة، لإنهاء ليل الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الطويل (اكثر من مائة سنة) والذي حرم الجزائريين من جنسيتهم ومن لغتهم العربية، وفرض عليهم الفرنسية لغة، وجنسية – وهوية..
وكانت ذروة نجاح الثورة المظفرة انتخاب احمد بن بله رئيساً للجمهورية المستولدة حديثا بعد ليل الاستعمار الاستيطاني الطويل..
وكان جمال عبد الناصر ضيف الشرف الاساسي والذي استقبله الشعب الجزائري بحماسة بالغة، مما اضطر مضيفه الرئيس بن بله إلى مرافقته في سيارة اطفائية.. لان السيارات العديدة احترقت او تعطلت تحت ضغط ملايين المتظاهرين الذين ملأوا شوارع العاصمة وميادينها.
(للبحث صلة)