لو توفرت القدرة، عند فريق الأكثرية، على القيام بانقلاب عسكري أو مدني من أجل إحداث تغيير في قمة السلطة، لما كان ثمة حاجة إلى مؤتمر الحوار الوطني: لكان »الانقلابيون« قد أنجزوا المهمة ثم طلعوا على اللبنانيين بالبلاغ الرقم واحد، ولا بأس إن عارض البعض أو استنكف بعض آخر عن المشاركة، فلم يحدث أن حظي أي انقلاب، ولو »ديموقراطيا«، بإجماع »ديموقراطي«.
وبديهي أن ما لم يمكن تحقيقه بالانقلاب فسوف يستحيل تحقيقه عبر هذا المؤتمر الذي يتلاقى فيه مختلفون، ليس فقط على التفاصيل بل أحياناً على »المبادئ«، ينظر بعضهم إلى البعض الآخر بكثير من الريبة والشك والحذر، ويتفارقون عند تقييم الماضي وعند توصيف الحاضر وخصوصاً في النظرة إلى المستقبل.
بديهي أيضاً أن هؤلاء الآتين من عقائد مختلفة إلى حد التصادم، ومن مشاريع سياسية متباينة، بعضها في نظر هذا الطرف أو ذاك »مشبوهة«، وبالتالي فهي غير مقبولة ولو للنقاش، لا يمكن أن يتخلوا عن عقائدهم وموجباتها والتزاماتهم بتحالفات وشراكة مع أطراف مغيّبين، ليسلّموا لخصومهم حتى الأمس بمطالبهم التي تتجاوز قدراتهم (بعد أن يطلبوا الصفح عما تقدم من ذنوبهم وما تأخر!..).
ومستحيل بشرياً، ومن ثم سياسياً أن تحل نعمة الله على المؤتمرين المختلفين حول الماضي وحول الحاضر، فيتفقوا فجأة على المستقبل الذي لن يهبط عليهم من حالق، بل لا بد للوصول إليه من مجادلات طويلة، ومن مبارزات حادة بالمنطق والحجة والأفكار، قد توفر بعض التقارب في المفاهيم والتحديد الدقيق مرة وإلى الأبد للعدو، ومن ثم للصديق، ومن ثم موجبات العداء (وطنياً) وموجبات الصداقة (وطنياً)… وبعد ذلك يمكن توسيع أرض التلاقي للتغيير على قاعدة برنامج مشترك يشمل مختلف مواقع السلطة ووجوه أدائها واستهدافاتها القريبة والبعيدة.
حتى لو افترضنا، جدلاً، أن الكل سلَّم بأن التمديد كان خطيئة، فإن ذلك لا يقود آلياً إلى التسليم بإسقاط رئيس الجمهورية، بينما الخلافات ما زالت قائمة ليس فقط على حيثيات الإسقاط، بل أساساً على موجبات قيام »العهد الجديد« ومن ثم على صورة هذا العهد الجديد وبرنامجه، في الداخل والخارج.
وفي تجارب هذا الوطن الصغير فإن تغيير العهود لا يتم بقوة المعارضين أو حجم شعبيتهم، ونقمة الناس على القائم بالأمر.
وإذا ما سلّمنا بأن »الفسيفساء اللبنانية« شديدة الهشاشة، فإن المتدخلين بالطلب أو بقوة المصالح كثيرون، وهؤلاء جميعاً ومن حيث المبدأ ضد التغيير بالانقلاب، مهما كان حجم »الأكثرية الشعبية« المنادية بعهد جديد.
إن أنظمة المنطقة عموماً كالأواني المستطرقة، وأي تغيير في أي نظام لا بد من أن يؤثر على ما جاوره (حتى ولو كان خصمه)، وبالتالي فهي تتكاتف وتتساند في وجه أي تغيير، في انتظار أن تتوافق عليه ليس بما تمثل فحسب بل بمن يكمن خلفها ويحميها.
والتغيير بالتالي عملية كبرى عنوانها لبناني وعباءتها عربية لكن مضمونها دولي يتصل باستقرار »الإقليم« جميعاً، وبالتالي بمصالح الأقوياء.
وبقدر ما ينجح مؤتمر الحوار الوطني في صياغة برنامج سياسي مشترك يلبي متطلبات اللبنانيين في الديموقراطية والاستقلال والصمود للعدوان الإسرائيلي المفتوح والعدل الاجتماعي، فإنه يقرب إمكان التغيير ليس بدافع الانتقام من الماضي بل بدافع استنقاذ المستقبل.
ومثل هذه المهمة تحتاج الى زمن لأنها تكاد تكون »ثورة«..
ومن العبث افتراض المؤتمر مصدراً للثورات، حتى لو افترضنا أن بين أطرافه من يقول بالثورة ويؤمن بها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان