لطرابلس مكانة خاصة في نفسي، بتاريخها النضالي العريق، من أجل الوحدة العربية والتحرير بعنوان فلسطين، كما موقعها الاجتماعي الذي منحها، عن حق لقبها السامي “أم الفقير”.. والذي أضاف اليها البعد الاجتماعي بعد البعد السياسي الذي جاءها مع تسميتها التاريخية: طرابلس الشام.
لقد عاش أهلي فيها سنوات متنقلين من بيت في بعض أحيائها الى بيت آخر في البداوي، بعدما نقل والدي ـ الرقيب في الدرك ـ الى الدعتور في المخفر المقام في منطقة لا سكان تقريباً فيها، وإنما المهمة هي حماية منشآت شركة نفط العراق ـ I.P.C. ـ والمصفاة القائمة عند نهاية خط الأنابيب وفي مواجهة النادي الذي أنشئ لموظفي هذه الشركة البريطانية، وقد كانت غالبيتهم من الأجانب (البريطانيين أساساً).. ولذلك أقيم في المكان منتدى بملعب للغولف ومطعم وملهى قد يعوض “الخواجات” ما حرموا منه في “غربتهم”.
كانت “وحدة النقد” المتداولة آنذاك هي “الفرنك”، أي الخمسة قروش لبنانية، والليرة عشرون فرنكاً.. وأسعار الحاجيات، لا سيما ما يتصل بالأكل والملبس وإيجار البيوت مقبولة يستطيع متوسط الحال أن يستأجر بيتاً مريحاً، وأن يعيش حياة طبيعية مع عياله.
كان بعض اهالي طرابلس، والشمال، قد ذهبوا كمتطوعين ليقاتلوا في فلسطين ضد العصابات الصهيونية في العام 1948 تحت قيادة القاوقجي.. والمؤسف أن عودته مهزوماً (مع الجيوش العربية قليلة الإعداد والامكانات) أمام العصابات الصهيونية المعززة بالدعم الدولي.. ولسبب أو لآخر شهد الاستقبال تصادماً في الشارع ذهب ضحيته أكثر من مائتي شهيد، بلا قضية.
بالمقابل فان المفتي عبد الحميد كرامي الذي صار في ما بعد رئيساً للحكومة، وكان بين من اعتقلهم الجنود السنغاليون للانتداب الفرنسي من قادة النضال من اجل الحرية ومباشرة تحرير الوطن، بعد إطلاق سراح المعتقلين في سرايا راشيا، ليصير ذلك اليوم، 22 تشرين الثاني العيد الوطني في لبنان.
ما لنا والماضي البعيد.. لنعد الى الواقع المعاش في طرابلس، لا سيما بعد اغتيال الرئيس رشيد كرامي، في 1 حزيران 1987 بينما هو يستقل طوافة عسكرية تابعة للجيش اللبناني، نسفت وهي في الجو بعبوة محشوة بكميات من المواد المتفجرة.. وهكذا استشهد الرئيس كرامي وأصيب معه الوزير عبد الله الراسي بجروح خطيرة.
ولقد اتهم آنذاك الدكتور سمير جعجع بالإعداد ثم تنظيم هذه الجريمة البشعة التي أودت بأحد أبرز الزعماء الوطنيين ورئيس أكبر عدد من الحكومات في تاريخ لبنان الحديث.. وحكم جعجع بالسجن المؤبد.. لكنه سرعان ما أطلق سراحه واستعاد حريته وزوجته السيدة ستريدا، ليباشر بعد ذلك إعادة بناء تنظيمه الذي ما زال يحمل الطابع العسكري لـ”القوات اللبنانية”، مفترضاً أن هذه حصته من تركة قائده السابق بشير الجميل الذي اغتيل بعد شهرين من الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وانتخابه رئيساً للجمهورية بقوة الأمر الواقع.
سقطت طرابلس من الذاكرة الرسمية وحين تم استذكارها وجاء الرئيس عمر كرامي الى السراي، وقعت كارثة وطنية تمثلت باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
وربما بتأثير الصدمة الفاجعة التي ذكرته باغتيال أخيه الشهيد رشيد كرامي، وإحساسه بثقل الأعباء التي ستلقى على كاهله، والتي لن يجد لها الحلول المناسبة في جو الإنقسام الحاد الذي استولد تنظيمات سياسية متواجهة منذرة بتفجير حرب أهلية جديدة…
لكل هذه الأسباب تقدم الرئيس عمر كرامي باستقالته، وعاد الى مدينة طرابلس يحاول التخلص من كابوس القتل العمد والمدروس بعناية والذي يستهدف بشكل خاص القيادات العاملة من اجل خدمة شعبها، وفي طليعتها الشهيد رشيد كرامي، راعيه وموجه خطواته الأولى، قبل انغماسه في العمل السياسي لتعويض غياب الرئيس صاحب البصمة في تاريخ
على ان الانتفاضة المجيدة التي يعيشها لبنان من ادناه الى أقصاه قد أعادت الاعتبار الى طرابلس ـ الفيحاء والى “شعبها” الذي عرف بتاريخه النضالي المجيد الذي لا يستطيع أي مكابر أن ينكره.
ان أهالي طرابلس، الفقراء بل المفقرين بالقصد منذ دهر، قد نزلوا الى ميدان عبد الحميد كرامي، الذي حاول “الاسلاميون” مصادرته وأسموه ـ جزافاً ـ باسم “الله” تبارك وتعالى..
المهم أن طرابلس الشام، نوارة الثورة، قد استعادت وهجها الوطني المشع، وأكد أهلها المقهورين بالإهمال الى حد النسيان، انها ما تزال تختزن الثورة وتاريخ علاقتها بأهلها وبجوارها من البترون الى عكار، مروراً بالمنية وحلبا والقبيات والدساكر التي تجمع اهلها في العبده، وهي نقطة التقاطع بين الطريق الى عكار والطريق الى حمص وحلب، ولها مع المدينة روابط عديدة بينها المصاهرة، وبينها المشاركة في الثورة السورية ضد الانتداب ـ الاحتلال الفرنسي، كما في الثورة من اجل تحرير فلسطين..
تحية لطرابلس التي تقدم الثورة في لبنان نموذجاً راقياً للحشد الشعبي الذي يغني لاستعادته تاريخه النضالي الذي لا يمكن أن يسقط بتقادم الزمن أو بمحاولة تزوير التاريخ.