من لبنان إلى فلسطين فإلى العراق يكاد الموقف أن يكون واحداً: الغرب يحبنا طوائف ومذاهب وأعراقاً وعناصر وقبائل مختلفة ومتناحرة إلى حد الاقتتال، ولا يستطيع أو أنه لا يريد أن يقبلنا شعوباً موحدة وآمنة في دول مستقرة، ولو بأنظمة أقل ديموقراطية مما نريد ومما يجب أن يكون.
ولا مرة، عبر التاريخ، تدفق علينا كفِرَق وشِيَع، هذا الفيض من العاطفة الغربية، سواء بلسان كبيرهم الرئيس الأميركي جورج بوش، أو بلسان أقربهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فضلاً عن المستشارة الألمانية ميركل التي تنطق تصريحاتها على السجية وباستهانة مطلقة بالمعنيين بها، وصولاً إلى رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير..
صارت أسماء رؤساء الحكومة (أو السلطة) في هذه الأقطار العربية الثلاثة تحديداً، ترنيمة يرددها هؤلاء الكبار الكبار وكأنما لقديسين أو لقادة تاريخيين، مع وعيهم بأن الإلحاح على ذكرها إنما يؤجج نار الخلافات في البلاد المعنية، ويحوّل التعارض في المواقف السياسية إلى مشاريع فتن أهلية.
ولا مرة، حين كان لبنان مستقراً وشعبه الموحد يسعى لتحسين أسباب حياته وضمان مستقبله، تدفقت علينا هذه العواطف الغربية الجياشة، أو أظهر أولئك الكبار كل هذا الحرص على السيادة والاستقلال ناهيك بازدهاره الاقتصادي.
كذلك فإن فلسطين القضية لم تحظَ في أي يوم بمثل هذا التعاطف الغامر الذي يظهره الآن الغرب عموماً والإدارة الأميركية خصوصاً تجاه السلطة التي لا تملك من أمر فلسطين شيئاً، وهو تعاطف بين ثماره المرّة محاصرة الفلسطينيين بالجوع والفرقة وسلب أراضيهم بجدار الفصل العنصري والحواجز المانعة للتواصل بين الأهل وأبنائهم، وانعدام الرزق والبطالة الشاملة وكل ما يمكن أن يستولد الخلافات القابلة للتحوّل إلى صدام بالسلاح بين الأخوة.
يعامل رئيس السلطة بإكرام مبالغ فيه، وتمنحه إسرائيل بعض أموال الفلسطينيين المحتجزة لديها، ثم يأمر له جورج بوش بمساعدة فورية قدرها 86 مليون دولار، لتعزيز قوات حرس الرئاسة ، من أجل ضمان أن تكون الصدامات المقبلة مع قوات حكومة حماس قابلة لأن تصير حرباً أهلية بين الأخوة لا تبقي من فلسطين وقضيتها شيئاً.
أما في العراق تحت الاحتلال، ففي آخر الأخبار أن الرئيس الأميركي وجد لديه فائضاً من الوقت، أمس، ليمضي ساعتين على الهاتف مع رئيس الحكومة التي تحوّلت إلى عامل إضافي من عوامل الفرقة والتوغل في غياهب الحرب الأهلية… وهذه المكالمة الاستثنائية تجيء بعد الإنجاز الباهر الذي حققه المالكي بتحويل صدام حسين من طاغية أهدر دماء ملايين العراقيين إلى شهيد عندما أصرّ على إعدامه صبيحة عيد الأضحى المبارك… وقدمه ضحية بالصوت والصورة الملونة!
إنهم يفضلوننا قتلى أو جرحى، وإجمالاً قبائل شاردة تضيع عن وطنها وتضيّعه في غياهب النزاعات والخلافات والصدامات التي تدمر وحدة الشعب والأرض والكيان السياسي.
إنهم يمتدحون بعض من جاءت بهم ظروف قاهرة إلى مواقع الحكم، ويبالغون في امتداحهم بقصد أن يخرجوهم من أهلهم وعليهم، ومن أوطانهم وعليها، أو يحرّضون عليهم أهلهم حتى الانشقاق وصولاً إلى الفتنة.
إنهم لا يحبون اللبناني كممثل للبنان بل لبعضه في مواجهة البعض الآخر،
ولا يحبون العراقي إلا كشيعي أو سني أو كردي أو أشوري لتصير أرض الرافدين مزقاً من الديار يعمل كل طرف على تطهيرها من الآخرين بحثاً عن الصفاء الطائفي أو المذهبي أو العرقي بما يفتح أبواب جهنم أمام الجميع ليحترقوا فيها.
وهم بالتأكيد لا يحبون الفلسطيني مطلقاً. يفضلونه لاجئاً، فإن اضطرتهم الظروف إلى الاعتراف به ومنحه سلطة تافهة فإنما على حساب قضيته ووطنه.. ومن أجل تأمين مزيد من الحماية لإسرائيل واحتلالها.
… أليس ذلك هو المدخل إلى الشرق الأوسط الجديد ؟!
أليست هذه، بالضبط، الفوضى الخلاقة ؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان