عالم يحكمه الجهلة والأغبياء. عندما كتب ألدوس هاكسلي عن عالم “جديد مجنون”، كان يقصد عالما يحكمه أصحاب الاختراعات الجديدة والمكتشفات العلمية. لو أعاد كتابة أفكاره الآن لرأى أن العالم “جديد” بطريقة أخرى. ليس أن الأكثر كفاءة علمية وأخلاقية هم الذين يتولون المراكز القيادية في العالم، بل أن الرؤوساء والوزراء وأصحاب القرار وهم، في العموم، الأقل ذكاءً والأقل أخلاقاً والأقل اكتراثاً بمصير البشرية. يزداد عدد الفقراء وهم يشكلون أكثر من 50% من سكان العالم دون خط الفقر، ويزداد عدد أصحاب البليونات، وربما التريلليونات. وهؤلاء في قسم كبير منهم لم يكملوا دراستهم الجامعية. وفي الغالب لا يتناسب التعليم والثقافة مع مزاجهم، إذ أن لديهم قيمة واحدة هي المال وجمعه، وتكوين الثروات الخيالية من خلال أعمال صناعية في التكنولوجيا والزراعة. ليس المهم فيها مصلحة الإنسان والإنسانية، ولا استمرار واستمرارية الأرض، ولا انتظام البيئة. أعمالهم الظاهرة، وما لا يظهر على الناس، هي أكثر ما يضر البيئة. وهي ما يعرّض المصير البشري لنهاية بائسة. هم يمولون حروب الإبادة ضد شعوب العالم. والمواد التي يستخدمونها هي التي تضر نظام الطبيعة. والآثار المترتّبة على آلاتهم الذكية التي صار لا يستغني عنها كل بشري منذ أن يولد، هي التي تولد بشرا معاقين عقليا، إذ يحل الروبوط والماكينة الذكية مكان عقولهم. الذكاء لم يعد قيمة. محصور في نخبة تعمل لدى السوبر أغنياء، وفي إدارة الجامعات، حيث الأساتذة وبقية الأكاديميا ينتجون السوبر أذكياء للعمل عند السوبر أغنياء. إدارات الجامعات حريصة على ذلك. لا دخل للأساتذة في إدارة جامعاتهم. وهم الأدنى أجوراً؛ الإداريون في الجامعات أعلى دخلا بكثير من الأساتذة، وهم الأكثر حرصا على توجيه التربية الجامعية وغير الجامعية بتنفيذ سياسات نيوليبرالية يقررها السوبر أغنياء. عالم تحتكر فيه النخبة البحث والتطوير العلمي لصالح الطبقة العليا، التي تقرر المصير والأهداف البشرية. المصير إخلال بالبيئة وتسارع نحو نهاية أبوكالبتية. والأهداف طوابير وجحافل من البشرية؛ بشر مجردون من الذكاء، أجورهم قليلة، يتكلون لا على عقولهم بل على ما في الآلة الذكية التي يحملونها في جيبهم، أو يضعها الأذكياء على طاولات العمل. هم جحافل من القطعان الذين لا هدف في حياتهم إلا الاستهلاك، خاصة استهلاك ماكينات جيب لا يعرفون شيئا عنها وتعرف عنهم كل شيء.
بين الجحافل رجال دين لم يتعلموا في مدارسهم الجامعية أو في مدارسهم الدينية سوى “العلوم” القديمة التي لا تفيد شيئاً في فهم العالم الحديث. يدرسون خلقاً للبشر منذ ستة آلاف سنة، ثم في ستة أيام، على يد خالق لا يعرفونه، والأرجح انهم لا يؤمنون به. قسم كبير يدرس أن الأرض مسطحة وأن الشمس تدور حولها. يستنبطون العلم وقواعد الوجود من قواعد وفرضيات وضع أسسها “علماء” في عصرهم قبل ألفي عام أو ثلاثة آلاف عام. يكون هؤلاء مضطرين حتى لقبول حطام الدنيا برواتب ومداخيل متدنية لقاء لقمة العيش؛ أو يشكلون جماعات سياسية تشارك في اقتطاع فائض عمل الذين يعملون والذين يقدمون هذا الفائض لرجال الدين الذين يعدونهم بحصة من السماء. عندما تسألهم عن عالم اليوم، يقولون أنهم عندما يكونون في السلطة أو يسعون إليها فإنهم يستخدمون التقنيين الذين يعرفون العلم الحديث لإدارة شؤون البلد الذي هم فيه. وسيكونون سعداء عندما يخدمون لدى السوبر أغنياء لنيل رواتب عالية. وتكون مهمتهم الإمعان في تعقيم عقول أفراد مجتمعهم. تفضل النيوليبرالية المالية أن تُسْكِنَ عقول الفقراء في عالم السماء، عالم ما بعد الحياة. لا في هذه الحياة. رجال الدين ينصبون الأفخاخ للفقراء لقاء حفنات من المال.
النظام العالمي المالي الحاكم صار مؤسسا على قيمة أخلاقية (أو بالأحرى لا أخلاقية) هي المال. المال قيمة وحيدة والبشرية ذئاب يتنافسون لالتقاط الفتات. “العالم الشجاع” الجديد هو عالم غياب الأخلاق. النظام التربوي الذي يصوغ العقول والذي ورثته النيوليبرالية عن الليبرالية يدمّر التعليم بإعادة توجيه الجامعات والمدارس الحديثة نحو خدمة القيمة الوحيدة السائدة؛ قيمة مرتبطة بالثروة وضخامتها. العلم القديم التقليدي غير ذي فائدة سوى في إنتاج الجهلة والأغبياء. يفهمون كثيرا حول السماء وما بعد الموت. يعرفون عما لا يمكن معرفته من الأساطير الكونية. تأثيرهم قوي في الحياة الدنيا لكن الفائدة منهم هي في التجهيل وإنتاج الأغبياء في جامعاتهم ومدارسهم. إنتاج عدد كبير من الفقراء (معظم سكان الأرض). ونظام تعليمي لا يدرّس القيم الأخلاقية الإنسانية بل ذئبوية المال كقيمة واحدة (لا اخلاقية)، تعلّم كيف يتنافس الناس ويتقاتلون وينفذون أوامر قاضية بحروب أهلية هي في حقيقتها حروب إبادة ضد البشرية وعقلها.
العالم المعاصر، عالم ما بعد الحداثة، يمكن أن يكون مفعما باليوتوبيا التي تعكس رغبة الإنسان في حياة أفضل وبيئة أكثر توازنا واتساقا مع الخير. لكن قيم النيوليبرالية عكست ذلك فحوّلت اليوتيوبيا الى توقعات أكثر تواضعا بكثير. توقعات ترسوا على التطلّع نحو إلتقاط ما يرمى إليهم من الفتات. حتى في أغنى بلدان العالم يعيش قسم كبير من الناس لا على العمل والإنتاج والقيم الإنسانية، بل على المساعدات في عصر تعاظم الثروات. ويكثر أصحاب التريلليونات، ويكثر عدد الفقراء، ويقل عدد ذوي الحشمة من الطبقة الوسطى. يتجه العالم الى استقطاب سكانه بين الفقراء المعدومين، وهم الأكثرية الساحقة، وبين أصحاب الثروات الكبرى، وهم قلة يعدون بالآلاف.
يلفت الانتباه أن بعض الذين أنتجوا أكثر الثروات في العالم في السنوات الأخيرة لم ينتظروا الانتهاء من الدراسة الجامعية حتى يبدأون بصنع ثرواتهم. كما يلفت الانتباه أن ليس في العالم قادة كبار يستحقون اسم الزعامة كما كان الأمر مع نهرو وعبد الناصر وتيتو وماوتسي تونغ وايزنهاور وكينيدي وديغول. المهم بل الأهم أن موهبة صنع الثروة أو جمعها تختلف تماما عن موهبة المعرفة سواء كان الأمر يتعلّق بهذا النوع من العلم أو ذاك، وأن موهبة المعرفة تخضع لموهبة صنع الثروة، وأن موهبة الثروة لا تتناسب مع موهبة المعرفة؛ ربما كان التناسب بينهما عكسيا لا طرديا. المعرفة تخضع للمال. والسياسة (في البلدان الديمقراطية) تخضع للمال. ليس الأمر جديدا. لكن الفجوة بينهما، كما بين الثروة والفقر، ازدادت أضعاف أضعاف في الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة. بينما كانت الفجوة بين مداخيل الطبقة الإدارية العليا والدنيا تبلغ أقل من مئة ضعف في الخمسينات من القرن العشرين، صارت الآن تقدر بالآلاف؛ على من يحبون الأرقام والإحصائيات تتبع ذلك.
الجهل كان واسع الانتشار على مدى التاريخ. والنخب المعرفية كما المالية كانت دائما تتبع أو تكون ملحقة بالنخب السياسية. في عالمنا المعاصر تخضع النخب المعرفية والسياسية للنخب المالية. المخيف الآن هو أن التجهيل سياسة معتمدة، وأن الذكاء يكاد يكون ملحقاً بذكاء الآلة الالكترونية، وأن الذاكرة لم تعد محمولة في الدماغ بقدر ما هي محفوظة في آلة محمولة في الجيب أو ملقاة على الطاولة. لم نعد نتبارى بأبيات الشعر المحفوظة لأننا لم نعد نحفظ الشعر. كان على الواحد منا أن يأتي ببيت شعر أول كلمة فيه هي آخر كلمة في البيت الشعري الذي يطرحه أمامنا المتباري الآخر. وهل هناك عاطفة إنسانية سوى في الشعر، لمن يؤلفه ولمن يحفظه؟ كانت الخطابة الشفهية علما قائماً بذاته في جمهوريات اليونان وعند الرومان والعرب وغيرهم. صارت الخطابة قراءة من على شاشة توضع أمام الرئيس، بحيث لا يراها المشاهد أو المستمع. كانت خطابات جمال عبد الناصر خلابة سواء كانت بالفصحى أو العامية. وغالباً ما كانت البداهة العامية هي الغالبة عنده. لم تعد البداهة أمراً يستحق الذكر، وربما أصبحت فاقدة الاحترام. ربما كان ما أقوله أمرا ذاتيا نابعا من الوصول الى الشيخوخة واختلاط أو تلاشي الذاكرة والبداهة معها. ربما كان في القول هذا حنين الى ما مضى، على الصعيد الذاتي أو التاريخي. لكن أكيد أن التوسّع المعرفي الذي شهده القرن العشرين ضمر في العقود الأخيرة. وانحصر في نخب صارت أصغر حجما وأقل انتشاراً. مع سلطة المال ازداد الأمر تفاقما، والأرجح أنه صار سياسة ممنهجة.
ما عاد المال مجرد وسيلة تبادل أو ادخار أو تراكم. صار أكثر فأكثر وسيلة تشليح ومصادرة. هو وسيلة إنقاص قيمة ما تحمله في جيبك أو في حسابك المصرفي. التضخّم، وهو الاسم الآخر لارتفاع الأسعار، يفعل ذلك. ما لديك من مال هذا العام تبادله بسلع مادية أو أقل في العام القادم، لا لشيء إلا لأن قيمة المال انخفضت بما يعادل ارتفاع نسبة التضخّم. لا يفترض أن يكون للمال قيمة، بل كان المقصود أن يكون تعبيرا عن قيمة. صار في زمننا الأخير قيمة فوق كل القيم الآخرى، بما في ذلك القيم الأخلاقية والمعرفية والسياسية.
هل غريب أن تتوسّع الأصولية الدينية في زمن تفاقم سلطة المال؟ لهم المال ولنا الدين. لأصحاب الثروات مالهم، ولأصحاب الفقر دينهم. الجهل والتجهيل في أساس الأصولية الدينية. الثروة تسيطر على المعرفة والأصولية الدينية رد عليها بإعلاء شأن ما لا يُعرف. الدين ليس أفيون الشعوب، بل هو عزاء أصحاب النفوس المعذّبة المتألمة. هذا ما قاله كارل ماركس. كان قصده العذاب وليس فقط الأفيون. بدل من أن يتوسّع المعلوم (المعرفة) على حساب المجهول، جاءتنا الرأسمالية المالية بعكس ذلك في زمن التقدّم التكنولوجي.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق