زيارة ثانية لحب أخضر يغني بخرير السواقي!
} إلى المختارة وفوزي عابد وآخرين
تعود يقودك حنينك إلى المكان الذي لم يغادر حناياك أبداً.
تستطيع أن تمشي هذه الطريق وأنت مغمض العينين، لأن شميم الزمن الجميل سيهديك إلى مراتع الصبا، وربما خالطته بعض النظرات الخاطفة التي كانت تبهجك وتأسرك وتكاد تذهب بصوابك، وتأخذك إلى الغلط في عنوانه الصحيح.
تعرفك كل شجرة لزاب، تعرفك كل فراشة، ويعرف قدماك المواقع التي يمكن للمراهقة أن تعلن عن نفسها فيها بطيش لذيذ لا يعكّره إلا ذلك الاضطراب الآسر الذي تحدثه العصافير وهي تتقافز مذعورة أو منتشية في قلب ذلك الدغل من الشجر البري والعوسج وسائر المتسلقات التي تكثر عند مجاري السواقي فتعطيها، مع الخرير، شيئاً من ملامح الأنهار.
لملم وجيب قلبك عن الطريق المتعرّج والملتفّ مصعداً إلى البلدة التي عرفت عن بيوتها ما لا يعرفه إلا العجائز اللواتي يدركن بالحس ما لا تدركه العين ولا يستجمعه الخاطر.
لم يعد أحد حيث كان، ولم يعد المكان هو المكان، ولست أنت أنت، لكنك لا تنظر بعينيك، ولا تفكر بعقلك، وتتقافز في ذاكرتك صور أخرى لناس آخرين، وملامح أخرى للأمكنة لا يستشفها أحد غيرك.
تقصد المبنى الجديد للحب القديم: الحشد مهيب حتى لتكاد تحس أنك محاصر بأزمنة عديدة وعواطف متضاربة يختلط فيها الودّ بالدهشة ووحشة الاغتراب بدفء الذكريات التي وقفت على أقدامها الآن مغتربة عن زمانها من دون أن تقدر على استعادتها.
يقترب منك الذين كانوا أتراباً ورفاق مغامرة ومنافسين على عشق الأجمل من بين الصبايا، أو الذين كانوا يسابقونك وتسابقهم في الصف: المرتبة الأولى مكلفة دائماً.
يا الله! إذا كانت هذه صورتك كما تعكسها وجوههم فأنت قد شختَ فعلاً، ولا بد من إيقاف مغالطة الذات حول صلتك بالشباب!
أين ذهب شعرك الذي كنت تغطّسه بالزيت يومياً لتتباهى بالتماعته الدبقة؟
أين ذهبت أسنانك وكانت أشهر من اسمك؟!
ليس بينهم من بقي من سواد شعره أثر!
وهذه مَن؟! »المترهبة« التي كانت كلما سمعت كلمة غزل أو تلقّت غمزة من متعجّل أطبقت يديها على شفتيها واستغرقت في الصلاة! ها هي »راهبة« كاملة، الآن، لا ينقصها إلا الثوب، ولكنها تطلق لسانها في ما كان محظوراً، وتفلت الغمزات لتكمل المعنى..
ابتعد زمن الخطر بقدر ما ابتعد الشباب.
لا خطر من كهل يتشبّب »براهبة« لا تريد أن تتبتّل.
الخطر في ما أنت فيه. لم يعد فيك من الصبا إلا عيناك والذاكرة!
لكن العين لا تأتيك، في مَن ترى، بغير الوجع، فسرِّح بصرك في الهضاب الخضراء حيث تعرّشت بيوت القرميد وحيث يزدحم الهواء بترجيعات الأيام المنصرمة تطغى على أصوات الحشد من حولك.
لا يتسع الماضي للسكنى فيه.
وأهل الماضي الذين يلتفون من حولك يضيّقون عليك الرجاء بدخول المستقبل.
تقف على شفا الماضي، لا هو يعود، برغم تمنيه، ولا أنت تريد حقاً مغادرة حاضرك إليه.
لا أحد يعيش عمره وقد لوى عنقه إلى الخلف.
الاستذكار لا يعني أن تتقهقر مرتداً إلى وراء.
من على البُعد تبدو الأشياء جميلة.. لم تكن على مثل هذا الرواء وأنت فيها. أنت لا تتحسّر عليها، بالتحديد، إنما تتحسّر على شبابك الذي انفلت من بين أصابعك وتحسب أنك لم ترتع في نعيمه بقدر ما تحب أو تستطيع.
إنها زيارة ثانية للتاريخ الشخصي قد تفاجئ الآخرين، وقد تمتّعك باستعادة ما ضيّعت من تفاصيل حياتك الأولى، إذ تعيدك الأمكنة إلى الأزمنة المنسية، أو تعيدك الوجوه إلى دفء كان للأمكنة، أو يعيدك الجو إلى وجوه غامت ملامحها مع أن قصصها محفورة في حنايا الصدر.
لكنك لن تمشي بظهرك بزعم أن ما غادرت ربما كان أبهى مما ستلقاه غداً.
لن تدخل غدك وأنت تسير القهقرى.
من المبهج أن تتنزّه داخل ذاكرة جغرافية.
ها أنت مرة أخرى حيث تحب أن تكون، وحيث تخاف أن تكون: تكشف الحميم المخبوء وتجهر بما كنت تداريه عن العيون والأسماع، وتجرّب أن تخاطب ذاتك من الخارج.
بينك وبين حبك الأخضر، هنا، تعب العمر. بين العمر وبينك التعب الأخضر من حب لا يفتأ يتجدَّد ويجدِّد ربيعه فيك.
بينك وبينك هنا الشعر وزهو الصبا وشيء من الطيش المبعثر زيتوناً في الكروم التي تعرفها عنقوداً عنقوداً، فراشاً وحساسين وشحارير في خميلات درب الهوى حيث للفرح صوت خرير السواقي، وأسراب الصبايا المختالات بنشوة الانتماء إلى أرض شبابها لا يشيخ، يتمايلن فتميد الدنيا بالفتية ذوي العيون اللامعة والحلوق التي أنضب الهياج ريقها وأطلق لهاثها الخائر.
تحت المطر، الذي كثيراً ما استحال برَداً، ونادراً ما صار ثلجاً، قطعت هذه الطريق على قدميك، عشرات المرات، في يدك سلة الزاد الأسبوعي، ترفع صوتك بغناء متقطع، مفكّك الكلام والمعنى، لتؤنس نفسك وتعيد إنتاج شجاعتك ممنياً نفسك بالدفء والاستحمام بعطر الحبق والفلّ المنثور الذي كانت تزرعه وترعاه »ستّك العيّوقة«.
في بعض مشاويرك الشتوية رافقك شبح الذئب وسمعت هسيس خطواته المتسارعة من حولك، أو تردد في أذنيك صدى عوائه المعوَجّ من على البُعد،
أما في رحلات الربيع والصيف فقد توشّجت عرى الصداقة مع أبناء آوى والثعالب والطيور المهاجرة إلى الغرب أو منه.
أنظر أمامك الآن. إخلع ذاكرتك وارمها إلى ذلك الذئب الذي قاربك مرة حتى كدتما تتحاوران كغريبين تجمع بينهما ألفة الطريق الموحل.
لا تُستعاد الأيام، ولا تعود إلى الوجوه ملامحها الأولى.
لكن اللهفة، بريق العيون، حرارة العناق، دفء الأنفاس، الاحتضان المؤاسي، التعبير المتأخر عن شوق قديم، الاعتذار للذات قبل الآخر عن الانقطاع الذي كاد يصير قطيعة.
لكن أطيافكم وأنتم مَن كنتم.
لكن وميض اللحظة الخاطفة، النظرة الخاطفة التي ما تزال تحتضن طيف الحب الأول.
لكن ذلك كله يغسل الوجد ويمنحك للحظة الاطمئنان إلى أن قلبك، مشاعرك، عواطفك، إنسانيتك، بخير.
* * *
ليست الوجوه هي الوجوه. ذهبت تلك التي كنت تعرفها من دون أن تنظر أصحابها.
لكنك طالما احتفظت بروحك سليمة فستظل قادراً على تجديد الزمن بالناس الذين وإن اكتهلوا فستظل قلوبهم خضراء تنبض بحب قديم قديم وشهي كعنقود عنب تقطفه فتغسله بالأضواء الأولى لفجر جديد.
تداعيات ما بعد التعدّد
تفتح الباب بهدوء، على عادتك، محاذراً إصدار صوت يخدش منتصف الليل.
تمشي على رؤوس أصابعك، كعادتك، وحتى لا يجفل طير النوم.
تخب في بحر الفراغ.
تستعرض الأسرة التي هجرتها الطفولة وأعطاها الصبا عنواناً جديداً.
تستعرض الخواء ويستعرضك.
تتوهّم أنك لا تخافه، وأنك قادر على اختراقه، وقادر على إسقاطه وتجاوزه لأنك كنت تتوقعه، ولأنك ممتلئ بسعادتهم التي تطفح بها الصور والأنفاس المعشّشة في السقوف والجدران وفي ستائر النوافذ ومغاليق الأبواب.
تقاوم دوي الفراغ بصدى ضحكاتهم، والأصوات الحادة لنقاش الاكتمال بالانفصال توكيداً للذات.
ها أنت تتعدّد. ها الواحد يصير اثنين، أربعة، ثمانية، عشرة.
ترتد إليك كلماتك، آراؤك، مواقفك وقد جدّدت شبابها فغدت أقوى منك عليك.
تفتح جهاز التلفزة وتجلس لتتفرّج بلا عيون.
ترفع الصوت لتخفي الدوي، ثم تخاف على طير النوم فتخفض الخارجي لكن الداخلي يتحوّل تدريجا إلى وجيب وفتافيت سكر وأطياف ابتسامات تحوم حولك كفراشات مزركشة بألوان الربيع.
يساهرك قمر مكسور التوهّج بالرطوبة.
وتساهر أحلاماً تتقافز أمامك بأثواب بيضاء.
وحين يبتعد القمر ساحباً معه الأحلام تبقى تسبح في بياض ذهنك المسطّح والمكدود، حتى يأخذك التعب إلى الغد فترتاح على وقع خطاه الوتيدة التي تنهي الغياب.
قصص مبتورة
} قالت: متى تغادر سجنك الإرادي؟! متى تسمح لقلبك بالتنفس؟!
رد وقد غلبه الشعور بالمهانة: وأنتِ متى تشعرينني أن لك داخل جسدك الموار باللذة هذا، قلباً أو بعضاً من قلب؟! إن جسدك يحتل المساحة، فلا يبقى هواء لنتنفس حباً!
*
} قالت وهي تغمز بعينها: أنتم الرجال تفضلون منا المرأة الخائنة.. بل وتتعاملون مع الواحدة منا وكأنها خائنة لزوجها إلى أن يثبت العكس. إنكم تتربصون بنا، ما إن تفلت منا كلمة أو إشارة أو حركة توحي بالارتياح إلى المجلس حتى يندفع واحدكم وقد وجد طريدته الشهية.
قال: لن تستدرجيني إلى موقع دفاعي، فلستُ الصياد ولستِ طريدتي!
قالت: وماذا لو كان كلانا مخطئاً في تقديره؟!
* *
قالت متباهية: إن زوجي لا يعود ويده فارغة أبداً! إنه لا يدخل البيت إلا وفي يده هدية، الهدايا تجدّد الحب، ولو كانت رخيصة. قيمتها في رمزيتها، في أنه يتذكرني دائماً ويفكّر بي، ويريد أن يسعدني بقدر طاقته.
وردت صديقتها: أما أنا فأتعامل مع معدته، صدقيني، المعدة أقرب طريق إلى القلب… ولذتي أن أجلس أراقبه وهو يلتهم طعامي بمتعة. أحس أنه يلتهمني، وأنني أذوب فيه. آه ما أشهى الحب!
* * *
ضاقت بها حلبة الرقص، فقفزت إلى الطاولة.. ومدّت يديها تنادي إليها الرجال الذين تخلّصوا من جزعهم بسرعة ليتأمّلوا تفاصيل جسدها وهو يتلوّى مصطنعاً لنفسه الإيقاع.
قال قائلهم: هذه ليلة تعدل عمراً.
قالت: ما أبأس طموحك، أيها المتسوّل الذي يرضى برائحة الشواء!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس تهويماً في المستحيل، وليس هرباً من الحياة إلى جزيرة منسيّة لا يصلها من الناس أحد. الحب كائن حي، يعيش بالناس ومعهم وفيهم، يقوّيهم على ضعفهم فيبرئهم من الأنانية والطمع والحسد، ويطلق طموحهم عفياً ليصيروا جديرين بنعمته. لولا الحب لبقيت موظفاً بائساً يلصق الطوابع على رسائل حب الآخرين ولبقيت حبيبتي نصف أمية تنتظر من يطلبها ولا تطلبه. الحب سر نجاحنا. إنه يمنح الأجنحة والإرادة والجدارة. تحيا إن أحببت!