عن الصحافة والسلطان: تشيخ ولا يشيخ، ويبقى وتزول
من حق رؤساء مجالس الادارة رؤساء التحرير في المؤسسات الصحافية »القومية« في مصر ان يرددوا، وهم يسمعون رئيس الدولة يطلب »التمديد« لنفسه بطلب »انتخابه« لولاية جديدة: أصيف وشتاء على سطح واحد؟!
وهل التقدم في السن يحول دون الانسان ومسؤولية ادارة صحيفة، بينما المزيد من التقدم فيه يصبح شهادة جدارة للمرشح (الوحيد) لرئاسة الدولة، بعد ولايات أربع؟
واقع الامر ان كل الزملاء الذين »خلعوا« من مناصبهم القيادية في المؤسسات الصحافية المصرية هم اصغر سنا من رئيس الدولة (78 سنة، رسميا) الذي يطلب لنفسه ولاية خامسة تنتهي، اذا مد الله في عمره، وهو في الخامسة والثمانين.
ليس في هذا المنطق اعتراض على انهاء وضع مغلوط كانت تعيشه المؤسسات الصحافية (القومية) اي التي تملكها الدولة السلطة بصيغة مموهة، فمن الطبيعي ان يخلي من تقدمت بهم السن المواقع القيادية لاجيال جديدة أقرب الى روح العصر وعلومه، اكثر حيوية ونشاطا وقدرة على المتابعة وأدق في التحليل لأنهم يعيشون أمنهم المختلف عن ازمان السابقين.
لكن المفارقة تكمن في ان ما يطبَّق على من هم ادنى في موقع المسؤولية يُستثنى منه المسؤول الاول عن البلاد والعباد، ومن له عليه الخاطر من امراء السلطة في مصر المحروسة.
السلطة قاتلة الأفكار
استدراك: أقلام الافكار لا تشيخ، ونبضات العقول الغنية بالثقافة لا يصيبها العجز بفعل التقدم في السن. لكن السلطة منهكة، والحكم عقيم. والحكم في ديارنا العربية عاقر. من وصل اليه ولو بالدبابة اعتبره حقا إلهيا لا يشاركه فيه غيره، ولا ينتقل منه إلى غيره. وفي الغالب الأعم فإن السلطة في بلادنا تكافح اكثر ما تكافح الأفكار وحملتها، بمنطق: إما نحن وإما انتم!
ولعل أستاذنا محمد حسنين هيكل قد اصاب حين اشار الى ان العلم (ومن ضمنه الطب) قد اثبت ان القائم بالأمر لا يستطيع صحيا ان يمارس السلطة لاكثر من عشر سنوات… فكيف اذا كانت السلطة مطلقة، واذا كان شاغلها هو المرجع الاوحد لشؤون البلاد وهموم العباد، صاحب القرار في الحرب والسلم، وفاتح الابواب امام الامل بغد افضل؟!
***
المهم، انه اخيرا وبعد تردد امتد لسنوات، وبعد مناورات ومساومات اساءت الى صورة الصحافة في مصر ودورها الوطني والقومي، أصدرت »السلطة« قرارها بإعفاء رؤساء مجالس الادارة رؤساء التحرير في »الصحف القومية« من مسؤولياتهم والسماح لهم بالذهاب الى التقاعد بعد ارجاء إثر ارجاء، وتمديد اثر تمديد، أصابا المؤسسات بالشلل وأصابا العاملين فيها باليأس من التقدم نحو القمة.
ولأن البيروقراطية تعالج اخطاءها وترديها بالمزيد من البيروقراطية، فإن »السلطة« قد استولدت مجموعة من المؤسسات شبه الحكومية المفرغة من اي مضمون لتمويه حقيقة ان القرار في اي شأن، وفي كل شأن، بما في ذلك اهلية الصحافيين لممارسة مهنتهم، له مصدر أوحد هو: الجالس على القمة.
ولأن »السلطة« في بلادنا أبدية، وزمنها مفتوح حتى يجيء أجل اركانها الذين يتسنّمون القمة، فإنها لا تعترف بالزمن بوصفه عامل تبديل وتغيير، وتفترض انها اقوى من تيار التطور الذي يطلقه، خصوصا في عصر ثورة الاتصال والمواصلات.
… وهكذا فإنها حين تنتبه الى حقيقة ان الاوضاع قد بلغت قاع التردي تفزع وترتبك فتلجأ الى القرارات المرتجلة التي تخمن ان لها القدرة على وقف حركة التطور وتجميد الزمن عند المحطة التي تفترض انها توفر لها الامان، في انتظار مرور العاصفة.
رؤساء تحرير بلا تاريخ لصحف بلا قضية
لنعد الى الصحافة في مصر التي قتلها الجمود نتيجة اصرار السلطة على الامساك بمقاليدها والتحكم بمؤسساتها العريقة وتسليم قياداتها الى زملاء اشتهروا بالولاء مقرونا بنقص الكفاءة، وارتقوا السلم الى القمة محمولين على جناح نفاق السلطة ومداهنتها وليس بغزارة علمهم او بتميزهم في التحليل الدقيق او بدأبهم على السعي الى جمع المعلومات من مصادرها وتدقيقها وحرصهم على تنوير قرائهم بالخبر الصحيح والتعليق الصريح والتحقيق الكاشف لامراض الواقع والمرض على ادانة المرتكب وعزل المسؤول المخطئ… اللهم إلا قلة قليلة ممن حافظوا على احترامهم لمهنتهم الجليل دورها التنويري، وحاولوا ان يعززوا معرفتهم وان يطوروا انفسهم وزملاءهم الى اقصى ما تسمح به الامكانات المحكومة دائما بقرار صاحب القرار.
اي ان السلطة قد عينت بعض الكتبة صحافيين، ثم رفعتهم الى رتبة رؤساء تحرير، ورؤساء مجالس ادارة، مطمئنة الى انهم »سينجحون« ما دامت الصحف الحكومية بلا قضية، وبلا دور جدي كمؤسسات ديموقراطية في حياة بلادهم.
مطبوعات لصفحات كثيرة ولا صحافة
إذاً، صدر القرار، واحيل على التقاعد جيل كامل من الصحافيين الذين كانوا يشغلون المواقع القيادية في الصحف القومية، التي هي مؤسسات يضم كل منها جيشا لجبا من الكتاب والمحررين والمخبرين والمصورين والرسامين ومهندسي الطباعة والعمال والموظفين الاداريين… فحيث تكون الحاجة الى واحد يوظف ثلاثة ثم يصيرون خمسة فعشرة ويبقى »العمل« بلا من يقوم به بسبب ازدحام المكلفين به.
فالمؤسسات الصحافية اصابها ما اصاب غيرها من مؤسسات القطاع العام من تورم نتيجة »العمالة الزائدة« التي اعتُمدت لمعالجة ازمة البطالة بكل انعكاساتها الخطيرة، فكان الحاصل ان الانتاج قد تردى، وان الرواتب استهلكت الامكانات، وان حشدا من العمالة الفائضة كان يغرق في البطالة المقنّعة، فيخسر كفاءته ومعها حماسته، فتتناقص ارباح المؤسسة ثم تغرق في العجز الذي يتحايل »قادتها« لتغطيته بالتواطؤ مع اصحاب القرار على قاعدة »خذ وهات« او »هات وخذ«، فالمال العام مشاع ولا من يحاسب، ثم ان الله رزاق كريم!
صدر القرار بالتغيير، إذاً، وأزيح الصف الاول من القيادات الصحافية وتم تعيين آخرين في موقع رؤساء مجالس الادارة ورؤساء التحرير…
وبقدر ما كان قرار ازاحة القدامى »صدمة ايجابية« فإن تعيينات الجدد شكلت »صدمة سلبية«، ليس لأن رئاسة التحرير لا تكون بقرار سلطوي فحسب، بل لان غالبية من تم ترفيعهم الى القيادات العليا هم من المغمورين الذين يصعب على الناس استذكار اسمائهم لانهم نادرا ما قرأوها تذيل موضوعات كالتي يتوقعون من الصحافة ان تعالجها…
عوملت الصحف كأنها ادارات حكومية او دكاكين ومحلات تجارية يمكن ان يديرها اي موظف يلتزم بإطاعة ولي الامر وساعات الدوام وحماية الحكومة برد حملات المعارضة عنها. وفي الغالب الاعم فقد رشح هؤلاء »الجدد« اولئك »القدامى« الذين اخرجوا ولكنهم اعطوا حق ترشيح البدلاء حتى لا تفتح سجلات الحساب عن الماضي واخطائه وخطاياه.
وتساءل الناس: كيف اكتشفت عبقرية »السلطة« هؤلاء الذين بلا اسماء وبلا سجل مهني حافل بالانجاز… وكيف يُعرف الصحافي ان لم يكن بكتاباته مواقفه، وبمعالجاته المهنية للقضايا التي تهم الناس وتؤثر في حياتهم؟
لكن السلطة حققت بالفعل انجازا غير مسبوق: لقد جاءت الى رئاسات التحرير بقراء غير متفرغين بين هواياتهم الكتابة.
كيف بالشرطة ستقوم صحافة عربية؟
واذا كانت الظروف سمحت لغير المؤهلين بأن يصلوا الى المواقع المتقدمة في السلطة التي لا تحتاج الى كفاءات عالية، فإن الصحافة »فضاحة« اذ هي تكشف اكتمال الكفاءة او النقص فيها. وفي اربع رياح الارض العربية كثير من المطبوعات ولا صحافة، وكثير من الصحافيين الذين لا يجدون لأقلامهم مساحة كي تقول… وهكذا تنقص الجدوى او الفائدة او المعلومات او الثقافة كلما زاد عدد الصفحات، التي يذهب معظمها الى الاعلانات والدعايات التي تكاد تصير احد مصادر »الثقافة العربية المعاصرة«.
أفكارنا ليست لأبنائنا
يأخذك العمل الى نسيان العمر.
لكن حدثا كالذي وقع في مصر ينبهك الى طبيعة هذه المهنة التي تتشرف بالانتماء اليها والتي لا ترحم: فلا عطلة فيها ولا تقاعد منها.
تحاول ان تقنع نفسك بان الاقلام الحبلى بالافكار لا تشيخ، ولكنك سرعان ما تنتبه الى ان لكل جيل مُثله وقيمه، وان »ابناءكم ليسوا لكم«، وليسوا بالتأكيد مثلنا. انهم ابناء زمن آخر، اغنى بما لا يقاس به زمنك بالافكار والابتكارات والوسائط الجديدة التي استحدثتها ثورات العصر، في مجال الاتصال والمواصلات خاصة، فجعلت العالم قرية واحدة، يتحكم بها ماديا وفكريا وثقافيا الاقوى والاغنى والاقدر على توظيف اسلحة العلم الجديدة.
التحدي ان تحفظ الشباب لقلمك، بان تحاول الانتماء الى العصر بغير ان تخسر نفسك وتبتلع لسانك بذريعة انك قد ورثته والتخلف يسكنه.
الأفكار لا تشيخ، صحيح. لكن حملتها يشيخون فيرحلون وتبقى بعدهم لتنير طريق المتقدمين نحو الغد.
وفي بلادنا فإن الروساء الملوك السلاطين القادة وحدهم لا يشيخون… أما الافكار فيمكن استيرادها او شراؤها جاهزة من السوبر ماركت.
والمهم ان نترك للاجيال الجديدة فرصة ان تختار أفكارها وان يكون لها الحق في المشاركة في صنع غدها الافضل.
اما اختيار الرؤساء السلاطين الملوك القادة المخلدون فشأن إلهي… حتى إشعار آخر!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
قرأت دواوين الغزل واطربتني قصائد العشاق المخلدين، وسهرت مع روايات الحب حتى تداخل الليل بالنهار… لكن ذلك كله ذاب فتبخر حين حاولت ان اقول: احبك!
حبك يصنع لغتك، وحبيبك هو الشعر والموسيقى وخيوط الضوء الاولى التي تبشرك بفجر جديد لعمرك.