لا تجتمع الرأسمالية والديمقراطية وكل التنازلات التي قدمتها الرأسمالية في القرن العشرين وما قبله تسعى لاستردادها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. إذ ما عاد هناك خوف من نضالات الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية الفقيرة التي تسير في ركابها.
إن صعود النيوليبرالية وأدواتها كالعنصرية ورفض المهاجرين واليمين المتطرّف والقومية الفاشية، كل ذلك عدة شغل رأسمالية لجعل الطبقة العاملة والفقراء يتبنون شعارات الرأسمالية البرجوازية وايديولوجيتها، بالرغم من تناقضها مع مصالحهم. فالجميع يخرج الى الحياة ويتعلّم في مدارس البرجوازية، وهي التي تعطي إجازات وشهادات النجاح. مجمل الناس ليسوا خريجي مدارس النضال الطبقي، بل مدارس الخضوع الطبقي والتطرّف القومي والفاشية الصاعدة.
في الثقافة، الطبقة العاملة وجمهور الفقراء هم المتلقون، والبرجوازية الرأسمالية هي الفاعلة، وهي التي تزرع أفكار طبقتها الرأسمالية في عقول الأجيال الصاعدة. لا يفلت من هذا المد الايديولوجي إلا القلائل، وهؤلاء لو كثروا لوضعت القيود عليهم وصولاً الى منع تداول أفكارهم. النظام التعليمي في المدارس، والتربوي في المنازل، ليس حيادياً. هو من صنع البرجوازية. هذه الطبقة هي التي تستغل الطبقة العاملة وعموم الفقراء. هي التي تزرع الأفكار في رؤوسهم؛ الأفكار الفاشية، الطائفية، العنصرية، خاصة أنها لم تعد خائفة من نظام اجتماعي يعاديها، ولو كان استبداداً، كالاتحاد السوفياتي. الذي ورث الاتحاد السوفياتي لا يخيفها بل يُقاد أو يُدفع الى حروب تستنزف أموال بلده (ويحرم منها مجتمعه)، وتوسّع سوق السلاح الذي تستفيد منه الطبقات العليا التي تصنعه وتصدره. وكلما استعرّت الحروب بين الدول والحروب الأهلية، احتاج الأمر الى مزيد من المال والسلاح والايديولوجيا. وكل ذلك بيد البرجوازية الرأسمالية.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، سلّمت البرجوازية الروسية أمرها للأكاديميا الأميركية، لتدلها هذه على الطريق الصحيح، ولم يدرك الروس أن الأخوّة البرجوازية لا تجمعهم مع الرأسمالية الأميركية. وأن ما يفصلهما ويفرّق بينهما هو بالضبط الأدوات الايديولوجية. فقد انقلبت على الفور ايديولوجيا الغرب الرأسمالي من الليبرالية الى النيوليبرالية، وهذه على أتم الاستعداد لاستخدام اليمين المتطرّف وفاشيته، والقومية المغلقة وكرهها للأجانب، خاصة المهاجرين المهربين، والأصوليات الدينية التي تساهم في تمزيق المجتمعات، والأهم من ذلك إقناع الناس بأنه إذا كان الدين فطرة، فإن الراسمالية هي النظام الطبيعي للبشر.
ومهما تقول الدولة الدينية في إيران، إلا أنها في حلف موضوعي مع الامبريالية الرأسمالية. إذ أن الفطرة والطبيعة وجهان لعملة واحدة، وفي كل منهما ينقاد البشري لما هو غريزي بالفطرة أو الطبيعة لا إلى العقلانية، التي يتطلبها البحث والحوار والشك والسؤال ورفض خضوع الإنسان لما يفترض أن يكون علاقة أولية مع دين أو أمر طبيعي. تتطلّب الديمقراطية استخدام العقل. وتنتهي هذه عند الخضوع لما هو قبل عقلاني، كما في الفطرة وما يسمى طبيعة البشر.
تشل الرأسمالية قدرة الإنسان على العقلانية والديمقراطية بإخضاعه (بالأحرى تربيته على الخضوع) لما هو خارج الإنسان من فطرة وطبيعة وما يتبعهما من عنصرية وعصبية عمياء. وفي ذلك يتخلى الإنسان عن ذاتيته وحريته خدمة لما تربى عليه.
عندما تقع الطبقة العليا في أزمة، فإنها تفرض على الدولة تمويل الحل، ومال الانقاذ يأتي من جيوب الطبقات الفقيرة. الدولة الحديثة تفترض احتواء جميع المواطنين، لكن الأثمان يدفعها الفقراء. وهم مكيّفون تربوياً على القبول بذلك. عدة الشغل الايديولوجية هي بيد الطبقة العليا لا الطبقات الوسطى والدنيا.
تعلمك الحداثة أن الحرية لا تكون إلا فردية. هناك مستوى من القداسة للحرية الفردية في جميع أنواع الليبرالية. هي مقرونة بالتقدم. لكن للفردية وجه آخر. للطبقات العليا (أصحاب رأس المال) والوسطى (مهندسون، أطباء، محامون، وغيرهم) نقابات هي جماعات مهنية. الطبقات الدنيا، ومن لا يملكون، وهم أكثرية في كل مجتمع، ليس لهم تجمعات مهنية. وكأن مهنتهم الفقر. ولم يعد للفقراء نقابات. هناك جمعيات للمحسنين وليس للمُحْسَن إليهم. تسعى السلطات دائماً الى قمع وتفكيك تنظيمات الفقراء، خاصة النقابات العمالية. لكنها ترحّب بتنظيمات وأصناف الطبقات العليا، وعادة ما تستمع إليهم، كيف لا وهم قاعدة السلطة. الفقراء وعموم الذين لا يملكون يشكلون خطراً على السلطة، وإذا تجمعوا يصير الخطر داهماً. حتى الإضراب، إذا كان واسع النطاق، يُهدّد سير عمل المجتمع بالشلل، إن لم يكن أكثر.
من المفارقات أن منتجي السلع، خالقي القيمة، مبعدون عن حق التجمّع في نقابات إلا حيث تضطر السلطة الى السماح بذلك، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وبروز خطر الشيوعية. إلا أن الذين بيدهم فائض القيمة، أو ما يقتطع من عمل العاملين، يرحّب بتجمعاتهم المهنية. الطبقات العليا أقلية في المجتمع، ويحتاجون الى التجمّع في ما يشبه النقابات. العاملون وعموم الفقراء أكثرية المجتمع، الذين تعمل السلطة على تمزيق أوصال تجمعاتهم، وقمعهم إذا تجمعوا. يرحّب بهم في تجمعات طائفية وعائلية وعشائرية وغيرها من التي تعتمد العلاقات الاجتماعية الأولية (كالقرابة العائلية أو الإثنية)، ولا يُسمح لهم بالتجمّع على أساس مصلحة. وتصير المصلحة المادية (والمعنوية) مختصة بالطبقات العليا. أما الفقراء فلا مصلحة (مصالح) لهم. يجردون من المصلحة كما يجردون من نتائج عملهم. حقيقة الأمر أكثر بشاعة. إذ يجبر الفقراء على القبول بالحد الأدنى الذي لا يكاد يكفي لسد الرمق، ويضطرون الى قضاء وقتهم خارج العمل في الكآبة، واليأس، وعدم التفكير، وعدم الاهتمام بالتفكير والتمتّع والنشاطات العديدة التي تؤدي الى نمو الشخصية والعقلانية. يحرمون من السوية الفردية، في حين تمارسها الطبقات العليا حتى حدها الأقصى. تعيش الطبقات العليا حياة فردية وجماعية، في حين تحرم الطبقات الدنيا من الحياة الجماعية إلا كجماعات مشوهة بعيدة عن المصلحة، كالفاشية، والقومية، وجماعات تشجيع الفرق الرياضية. ويجبرون على فردية مجردة من سويتها. فرديتهم ليس فيها إلا وظائف البدن الأولية، كالأكل، والبراز، والجماع؛ وما يُحكى عن الحياة “الإنسانية” لا يتمتّع بها إلا الطبقات العليا. العامة، ومعظمهم الفقراء، يجبرون على حياة أقرب للحيوانية. الإنسانية حكر على الطبقات العليا.
تفترض الديمقراطية حداً أدنى من العقلانية التي تتأتّى عن طريق التواصل والحوار والنقاشات والشك والتساؤل. مما لا يُتاح في أوقات العمل، وهو أيضاً مما تُحرم منه الطبقات الفقيرة في أوقات غير العمل، بينما يُتاح للطبقات العليا في كل الأوقات.
أما عن تكافؤ الفرص، فكيف يقارن من يولدون في الفقر وملكية لا شيء مع من يولدون ولديهم وراثة المال، ناهيك عن السلطة. ما أشطر ايديولوجيي وإعلاميي السلطة في الدعاية، إذ يهللون ويملأون الدنيا ضجيجاً لإبراز قصة واحد أو بضعة أفراد خرجوا من الفقر الى الثروة، وهؤلاء حالات أقلية ونادرة.
الفقراء بمجموعهم يبقون طوال حياتهم مقيدين بسلاسل الفقر والفرص غير المتاحة. في جميع الأحوال، إلا في حالات معزولة، ما يقرر مكان الواحد في السلم الاجتماعي، وما يتبع ذلك من ثروة وجاه، هو القاعدة التي انطلق منها: الفقير يبقى فقيراً، والأرجح أنه يزداد فقراً، وصاحب الثروة يزداد غنى ولا يهبط مستواه إلا في حالات نادرة.
ليست نهاية الديمقراطية مقررة بطبيعة الإنسان وميله الفطري الى اللاعقلانية عندما يذهب الى صندوق الاقتراع لاختيار من يمثلونه، بل هي حصيلة نظام اجتماعي اقتصادي، وبالتالي سياسي، يحرمهم من القدرة العقلية على حسن الاختيار. وفي قليل من الأحوال، يعرض الفقراء أنفسهم للنيابة فلا يترشحون. عادة من يفعلون ذلك هم من لديهم المال، أو من تدعمهم شبكات أصحاب المال.
حتى لو تعمم التعليم، وكان مجانياً، يبقى الفقراء فقراء، والأغنياء يزدادون غنى. مثل على ذلك، الأساتذة الجامعيون. فهم يملكون أعلى الدرجات العلمية، ويفترض أن يكون لديهم قدرات عقلية هي الأعلى في المجتمع، لكنهم يبقون في أدنى الطبقة الوسطى، وعلى حافة الفقر طيلة أيام حياتهم. إن لم تكن رواتبهم هي الأدنى، فهي تبقى أقل بكثير من متطلبات وضعهم الاجتماعي.
الديمقراطية تتطلّب أكثر من تكافؤ الفرص. دون حد أدنى من المساواة والمشاركة في ثمار العمل تبقى الديمقراطية وهماً. طبعاً وهم الديمقراطية أفضل من الواقع الذي يفرضه الاستبداد والقمع. لكنه وهم يستحق النضال من أجل أن يصبح حقيقة واقعية. يصطدم ذلك بالفاشيات والأصوليات التي تجندها البورجوازية الرأسمالية كي لا يناضل الناس، خاصة الفقراء من أجل مصالحهم الحقيقية. ومن الطبيعي أن تكون الفاشيات والأصوليات متفشية بين الفقراء أكثر مما لدى الطبقات العليا. فهذه تعرف مصالحها، وهي التي تنشر الفاشيات والأصوليات وبقية الحركات والتجمعات غير العقلانية من أجل هذه المصالح… يتبع.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق