قبل ثلاثين سنة كنا نناقش بجرأة سيناريوهات المستقبل واثقين من أن ما في حوزتنا من معلومات عن تاريخ التطور الإنساني وتجاربنا لا بد أن يسمح لنا باستشراف ما هو آت إلى درجة معقولة. كثيرا ما تداولنا عابرين شئون الماضي ولم نتوقف يوما عندها إلى أكثر مما تستحق. لا أذكر أن الحنين للماضي كان ملازما في بحوثنا ولا عضوا مقيما في دوائر حواراتنا وفي سهراتنا كما هو ملازم الآن ومقيم في معظم مناقشاتنا. صرنا أشد ميلا لاسترجاع تفاصيل مواقف وسياسات دفنتها الأحداث وهالت عليها التراب. صرنا لأسباب كثيرة أقل شجاعة في مواجهة المستقبلات أما الجرأة التي تحلينا بها ذات وقت للتعامل مع المستقبل نراها الآن دافعة للكثيرين على الإقدام بدون كثير تردد على تحليل وربما على تشريح الماضي والاستغراق في استخلاص الدروس والعبر. فاتنا أن أكثرها فقد صلاحيته كمصدر للبناء فوقه، لكنه بقي بالتأكيد مادة دسمة للتسلية ورادع للملل ومتنفسا لبعض بخار الغضب والاحتجاج.
- • •
يقال أن القادم مختلف جذريا عن كل تجارب الماضي كما عشناه والحاضر الذي نعيشه باستثناء أمر واحد. لا أظن أننا كمراقبين أو دارسين أو سياسيين غافلون عن مغزى السؤال الحاكم في كل عصور السياسة وهو ” لمن الفوز في السباقات الدائرة هذه الأيام والمتوقعة في الأيام القادمة؟”. السباقات الجارية الآن ليست تطورا طارئا في العلاقات الدولية. تتغير الدول وتتغير توازناتها وتتغير قياداتها وأنظمة الحكم فيها وتبقى شاهدة عليها وفاعلة فيها المنافسة بينها والسعي الدائب للفوز وتحقيق السبق. نعم عشنا في الماضي ونعيش في الحاضر شهودا أو أطرافا في هذه التجارب المثيرة والخطرة أحيانا، ولكن لا يخفى أن هذه السباقات الجديدة تنحو نحوا مختلفا عن مثيلاتها في الماضي وعن بعضها، أنظر معي:
أولا: ربما أساءت روسيا اختيار وقت غزوها لأوكرانيا أو لعلها تعمدت. نعيش، ويعيش أهل القوى العظمي مرحلة سنوات حدية، بمعنى أن المسئولين عن هذه الدول هم على وعي جيد بأن لا التساهل ولا التسامح مسموح به في مرحلة وصلت المنافسة بينهم إلى موقع هو الأقرب بين كل السباقات من خط النهاية. والنهاية في عرف القادة تعنى الخروج من اللعبة السياسية نهائيا، وهو ما عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين بأن الصراع على أوكرانيا ما هو إلا صراع وجود، بعده أو خلاله روسيا تكون أو لا تكون. حرب الغرب في أوكرانيا ليست حربا باردة أخرى ولن تكون، والصين على علم أكيد بأن هذه الحرب خطوة نحو خطوة أهم وأخطر حين تتواجه الصين والولايات المتحدة ليرسما معا خريطة جديدة للقمة العالمية وبالتالي لأجندة قواعد عمل وسلوكيات جديدة، وحين يتوافق الطرفان أو يتصادمان على الأسس اللازمة لقانون دولي مختلف يخدم مصالح شرائح أوسع من البشرية.
ثانيا: نحن جميعا نجد أنفسنا في حيرة عندما نتعرض لاستفهامات تتعلق بمفهوم عدم الانحياز ونوع الانتماء له في عصر قادم مختلفة هياكله وقواعد عمله جل الاختلاف عن هياكل وقواعد عصر سابق أو راهن. يسألون فلا نجيب، إلا بعد تردد. هل يتفق أو يمكن أن يتوافق لولا دا سيلفا البرازيلي مع مادورو الفنزويلي مع بن سلمان السعودي مع خامنئي الإيراني مع فرنانديز الأرجنتيني مع بورييك الشيلاني مع موسيفيني الأوغندي مع عبد المجيد تبون الجزائري مع رامافوزا الجنوب أفريقي. ليست مهمة سهلة تحقيق اتفاق أو توافق بين كل هذه الأسماء بتوجهاتها السياسية ومصالحها أو إنجازاتها وإحباطاتها التنموية وروابطها بقطب دولي أو آخر. ومع ذلك هناك إجماع بين هؤلاء القادة على انتهاج سياسة تبتعد قدر الإمكان عن خطوط تماس وخطوط تضارب مصالح الأقطاب الثلاثة وحلفائهم دون أن يعنى هذا الابتعاد مقاطعة مجمل سياسات هذا القطب أو ذاك من اٌقطاب القمة، ودون أن يعني في الوقت نفسه توقف التنافس داخل مجموعة المنتمين لفكرة عدم الانحياز وإن كان من الممكن في المستقبل وحال اختيار قيادة لها وضع أجندة لقواعد سلوك وشروط التنافس السلمي بينهم.
ثالثا: عندنا في الإقليم، وأقصد به العالم العربي، مشكلة تطرح علينا حيرة مماثلة كتلك التي يطرحها المنتمون لفكرة عدم الانحياز. ترددت على مسامعي في الأيام الأخيرة طروحات تلمح إلى أننا سوف نشهد خلال السنوات وربما الأيام القادمة نزوحا من فكرة وعقيدة الانتماء العربي إلى فكر وعقيدة انتماء أوسع. أسبابهم ومبرراتهم عديدة. أذكر منها الحال الذي انحدر إليه العمل العربي المشترك، ومنها بطبيعة الحال الهجمة الصهيونية الجديدة والشرسة ضد الشعب الفلسطيني وميوعة رد الفعل العربي، ومنها الدعوة الصريحة إلى أن الفوز في المنافسات الجارية بين الدول العربية يجب أن يذهب للقائد العربي الذي يعيد للخطاب العربي صيغة “نحن” العرب محل صيغة استجدت في عهود الانحدار، وهي صيغة “الأنا” المتجاهلة كليا الانتماء إلى الجماعة العربية أو الجماعة الإسلامية أو الشرق أوسطية. أدرك شخصيا مثل كثيرين أقابلهم في مصر وخارجها أن انحدار المكانة التي كانت مصر تحتلها يعود إلى سلوكيات في السياسة الخارجية المصرية في العقود الأخيرة جلبت عليها سمعة وأسبقية “الأنا” قبل “نحن” وفي الغالب الحلول محلها. لعلي لا أبالغ حين أجد نفسي متأملا في أحد أهم أسباب انحدار المكانة الأمريكية وهو احتلال الأنا الضيقة الموقع الأهم في استراتيجية الولايات المتحدة الخارجية على امتداد فترة الهيمنة ومقارنا إياه بمثيله في الحالة المصرية.
رابعا: استجد تطوران كلاهما بث الرعب في قلوب بعض الناس والأمل في بعض آخر وأقرأ الآن عن اهتمام شديد من جانب مسئولين في الثقافة والصناعة والأعمال والسياسة والعمالة والاستراتيجيات الدفاعية والأنشطة المتعلقة بالأمن القومي وغيرها من الأنشطة والقطاعات، كلهم مهمومون أو مرتبكون أو مقبلون بنهم. التطور الأول يقع تحت عنوان الذكاء الاصطناعي وما ولده بالفعل ويولده كل لحظة من استخدامات لهذا الإنجاز الخارق للعادة. التطور الثاني يتعلق بأول وآخر ما تفتقت عنه قضية سخونة المناخ وأقصد الزيادة المتتالية في معدلات ذوبان الجليد في منطقة القطبين الشمالي والجنوبي. إن استمرت الزيادة فالمتوقع أن تهرع الدول المجاورة والقريبة وبعضها دول عظمي لاحتلال مناطق يقال أنها زاخرة بثروات هائلة من المعادن والطاقة.
كلاهما، ذوبان الجليد أو انحساره عن مساحات كبيرة في المناطق القطبية، واطراد البحث في مجالات الذكاء الاصطناعي وبخاصة احتمال انتقال المبادرة من الإنسان إلى الآلة التي اخترعها بنفسه وهذبها وطورها، كلاهما فتح أبوابا جديدة للمستقبل وتركها مشرعة.
صار محل شك أغلب مشاهد المستقبل التي بذل في إعدادها وتدقيقها علماء التخطيط التنموي والعسكري جهدا عظيما واستثمروا فيها مالا وفيرا. هناك على بعد غير بعيد تقف في انتظارنا أيام لا عهد لنا بمثيلاتها ولا عهد لها بثقافتنا وتطلعاتنا وسلوكياتنا وعقائدنا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق