ورد في الحديث الشريف: “الناس شركاء في الكلأ والماء”. يتطلّب الأمر في هذا العصر التعاون بين الدول من أجل الشراكة. لكن الايديولوجيا السائدة في النظام العالمي هي المنافسة لا التعاون.
كثير من الأنهار يشترك في أحواضها بَلَدان وأكثر. هناك احتمال نزاع حول مياه كل نهر يجري من بلد الى آخر. لكن لا نسمع عن نزاعات حول الأنهار في أوروبا إلا أن احتمالات الحروب موجودة في معظم أنحاء العالم. ربما كانت حرب المياه تلوح في الأفق. إذا كان النظام العالمي يبحث عن أسباب لحروب قادمة، فذلك سيكون حول المياه.
ما يلفت النظر أن الاتفاق حول تقاسم نهر هلمند الذي ينبع من أفغانستان ويجري منها الى إيران، ويصب فيها، معقود منذ عام 1972، لكننا بدأنا هذا العام نشهد نزاعاً بين البلدين. ربما كان للجفاف أثر في ذلك. لكن المزايدات ذات بواعث الروح القومية تجعل الحل التقني الذي يفترض أن يكون عقلانياً أكثر صعوبة، إن لم يكن مستحيلاً.
يعلم الجميع ما بين مصر والسودان وأثيوبيا حول مياه نهر النيل، وما بين تركيا وسوريا والعراق حول مياه نهر الفرات. نوايا الدول المعنية تصير ثانوية حين تتدخّل قوى خارجية امبريالية تحريضاً وتمويلاً، ظاهرهما للحل، وباطنهما للنزاع والحرب. أنهار أوروبا الكبرى مثل الراين والدانوب لا نزاع حولها برغم أن هذين النهرين يجريان في بلدان عدة. في كل مكان آخر حول العالم، ومعظم الدول العالمثالثية تسير الأحداث بشكل مختلف. يتشابك الداخل والخارج، والعوامل التقنية بالنوايا الامبريالية، والمزايدات القومية بالمصالح الموضوعية. وهو تشابك يثير نزاعات يمكن الاستغناء عنها، في حين أن أكثر البلدان المعنية تعاني نقصاً في موارد المياه، مما يجب أن يؤدي الى الحفاظ على كل قطرة مياه، والى ابتكار طرق وأساليب لتخفيض الاستخدام وخفض الهدر، خاصة مع ازدياد عدد السكان، وازدياد حاجة الفرد للمياه بما يفوق العقود والقرون الماضية.
إن دخول جماعات جديدة في كل المجتمعات في الحداثة، وازدياد الحاجة الفردية للمياه، سواء كان ذلك لأمور صحية أو لخلق جو مختلف من الرائحة في الجو حول كل فرد وجماعة، يعني الحاجة الى المزيد من المياه النظيفة.
ازدياد أعداد البشر بمتطلبات جديدة يعني ازدياد الطلب في وقت تتناقص وفرة المياه، خاصة في سنين الجفاف. هذا يعني أن عودة الروائح الكريهة في المنازل والشوارع هو أمر محتمل. لو تصوّرنا أن استخدام كل فرد في العالم للماء المنزلي والفردي يساوي ما في الولايات المتحدة أو حتى أوروبا، لتبيّن حجم الكارثة. إن زوال وفرة المياه حتى في غير سني الجفاف يعني أن المنافسة بين الدول ستكون شديدة وباعثة على المنازعات المؤدية إلى حروب. لن تستطيع الطبقات العليا حول العالم أن تحافظ على مستويات عالية من استخدام المياه، وترك الطبقات الدنيا مسدودة الأنوف، لتلاقي الروائح والانهيار الصحي، مما سيؤدي الى مشاكل اجتماعية وثقافية داخل كل مجتمع. أما المدن الكبرى، حيث تضطر النساء الى انتظار حلول الليل لقضاء حاجتهن الفيزيولوجية، وقطع مسافات طويلة للابتعاد عن الأنظار، ومعاناة الحصر لحين الوصول، فذلك سيؤدي، وهو يؤدي حالياً، الى حالات تستدعي المعالجة الطبية، ناهيك أنهن يخرجن جماعات من أجل أمنهنّ، وذلك ينطبق على الرجال، وإن كانت الحساسية الاجتماعية أقل.
أما الزراعة، فهي تتنافس مع استخدام الماء للاستعمال المنزلي والشرب. وفي البلدان التي يصيبها الجفاف في بعض السنوات، أو بوتيرة متواصلة، يصير بناء السدود للري ضرورة قومية. بالطبع تدفع الطبقات المالكة للأرض الدولة إلى بناء المزيد من السدود، وأخذ حصة الغير. فمع زيادة السكان تزداد الحاجة الى الاستعمال المنزلي والشرب، ويظهر ذلك في المدن التي هاجرت إليها أكثرية السكان، وتزداد الحاجة الى الزراعة لإنتاج المواد الغذائية. تتخذ أوكرانيا لقب السلة الغذائية للعالم. وصارت الولايات المتحدة تزرع مساحاتها بالذرة لتحويلها الى كيماويات، تتحوّل بدورها الى وقود للسيارات. إن الولايات المتحدة وحدها تكفي لتغذية العالم، لو كان الاستخدام الزراعي من أجل الغذاء. يضاف الى ذلك أوستراليا ونيوزيلندا اللتان تنتجان كميات كبيرة من الحبوب. يجب التذكّر أن الولايات المتحدة كانت المصدّر الأكبر للقمح الى الاتحاد السوفياتي ومصر، قبل تحويل زراعة الذرة الى إنتاج وقود السيارات.
المعلوم أن كارتيلات الزراعة صارت من الضخامة حد مضاهاة شركات النفط والأدوية والسلاح، وجميعها بيد الغرب، أو بالأحرى الشركات الغربية. والأسعار ترتفع لكل مادة لكنه لا يُطلب إلا من الأوبيك زيادة الإنتاج، الذي لا حاجة له، وذلك لأغراض سياسية أكثر منها اقتصادية. ما يراد من العرب والروس وإيران فعله شأن سياسي، هدفه خدمة الامبراطورية، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية، ولا يطلب من الكارتيلات للمواد الأخرى رفع وخفض الإنتاج لأن هذه الكارتيلات مملوكة غربياً. مشكلة العالم زراعية، وسهول الولايات المتحدة وحدها تكفي لإطعام العالم، لكن سياراتها ذات أولويات على ضرورات غذاء الناس.
إن التعاون البشري يفترض استخدام المياه للشرب أولاً، وللزراعة ثانياً، في المناطق التي لا تتوفر فيها المياه، وفي المناطق المعرضة للجفاف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أسعار النفط لا تُقرر في الخليج العربي، ولا في روسيا، بل في براري الولايات المتحدة، التي تنتج سهولها الذرة لوقود السيارات. ذلك يفاقم الأزمة الغذائية في العالم، ويدفع الى منازعات، بل حروب الماء التي تسعرها الخصومات القومية، والتي تتجاهل في كثير من الأحيان الصورة الكلية أو الضرورات الإنسانية.
يُقال إن القرن العشرين كان قرن بناء السدود وإزالة الغابات الاستوائية وليس فقط بناء المحطات النووية. تفرض الولايات المتحدة بسلاحها وقوتها العسكرية أنواع الزراعات في البلاد الأخرى. وإذا أدت هذه الى مجاعات فلا بأس، إذ يموت الفقراء الذين يعد استهلاكهم غير ذي قيمة للشركات. هم سيان عند الشركات سواء عاشوا أو ماتوا. أحد تناقضات الرأسمالية هو حاجتها الى مستهلكين لا بشر. فالبشر سلع تستهلك سلعاً بغض النظر عن الوجود الإنساني. وهذا في أساس حروب الإبادة المالتوسية (تطبيق نظريات مالتوس دون حسن نية). إنتاج منازعات المياه والجفاف في مناطق في العالم للخلاص من سكانها، أو فقرائها على الأقل. طبعاً تؤدي المجاعات والجفاف الى حكومات فاشلة و”مساعدات” إنسانية تمنحها الدول الكبرى، وأحيانا الى تدخلات عسكرية لمواجهة الحكومات الفاشلة وتهذيب دولها.
الولايات المتحدة أكبر منتج للسلاح والمال والنفط، وتسيطر على المواد الأولية في العالم، وهي تحتاج الى حروب لاستخدام السلاح، وإزدياد اعتماد الدول المتحاربة عليها، وإضعاف الدول التي لا تنصاع لها. فأزمات المياه مصطنعة رأسماليا، والمجاعات أسبابها سياسات رأسمالية شبيهة، وكلها تعني في النهاية الحروب والمزيد منها. شركات السلاح الأميركية لإصابة الناس، وشركات الأدوية لإنتاج ما يداوي المصابين، والتضخّم لإنتاج ارتفاع أسعار كل ما يؤكل، والأصوليات الدينية والقومية من أجل إنتاج حروب لا حاجة لها، وليس أسبابها مما لا يقبل الحلول لو كان التعاون لا التنافس هو أساس سياسات العالم. والمعلوم أن سياسة التنافس لا التعاون هي من صنع الولايات المتحدة التي تحكم نظام العالم، وتعتقد أن ذلك سيكون أبدياً.
الاستبداد في بلادنا وغيرها ينتجه حكام طغاة. والاستبداد الأدهى والأشد هو استبداد الدولة الأقوى في العالم. فكفكة استبدادها يستدعي تفكيراً مغايراً عما تعودنا عليه. نظام النيوليبرالية هو نظام الاستبداد العالمي الذي تجري في داخله انتخابات يزعم أصحابها أنها ديموقراطيات دون الشعور عند العامة، بشكل غامض، بأن هذه الديموقراطيات أساس الاستبداد العالمي، وأساس تمكّن الولايات المتحدة من حكم العالم، وتسيير واستنزاف مدخرات شعوبه المودعة عندها، وإنفاقها في ميزانيات أميركية، يقرر الجزء الأهم منها ممثلو المناطق الأميركية الريفية، الذين توجههم الشركات الكبرى، خاصة الزراعية. هذه الشركات الكبرى تؤثر في الكونغرس الأميركي بما لا يقل عن تأثير البنتاغون ووول ستريت (السلاح والمال).
تعلمنا من التاريخ أن لكل امبراطورية نهاية. ونستنبط من التاريخ أن للرأسمالية بداية (منذ خمسة قرون) وستكون لها نهاية. لا نعرف متى، إذ لا نرى القوى المعارضة لها ذات فعالية. ربما يأتي ذواء الامبراطورية الأميركية من داخلها. لكن ذلك يثنينا عن التفكير في إنشاء معارضات تهزم الامبريالية، وتنشئ نظاماً مغايرا. صحيح أنه في الماضي لم تهبط إمبراطورية إلا لتقوم أخرى مكانها، بالعنف أحياناً. هذه المرة لا نعرف كيف. ربما كان في الماضي أن الامبراطوريات الصاعدة التي حلت مكان الامبراطوريات المتهالكة لم تفعل لك عن قصد، وإنما هي ما يُسمى حركة التاريخ.
أما آن الأوان لقيام نظام عالمي مؤسس على التعاون لا التنافس والحروب الدائمة أو المتتالية؟
خاضت الولايات المتحدة منذ استقلالها حروباً بعدد سنين وجودها. الحركات المناهضة للنظام العالمي متناثرة وقليلة التأثير. ربما كانت البشرية بحاجة الى أممية أخرى تكون أكثر إلتزاماً بالفقراء، وهم أكثرية البشر، وأكثر فهماً لآليات النظام العالمي. أممية تعرف كيف تدمج بين الفكر والعمل.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق