يفتقد لبنان، ومعه سائر إخوانه العرب، بهجة الاحتفال بالذكرى السادسة للانتصار على الحرب الإسرائيلية التي شكلت نقطة تحول حاسم في الصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً، وسجلت للمقاومة بقيادتها المميزة كفاءة وحضوراً ومجاهديها الأبطال الذين عبّروا عن إرادة أمتهم، ولشعب لبنان كله، بمختلف أطيافه وفئاته، كما لجيشه الذي شارك بجهده، صفحات مجد مضيئة في التاريخ العربي الحديث.
ومع أن الانتفاضات الشعبية الرائعة التي تجتاح معظم أرجاء الوطن العربي تبشّر بغد أفضل، ولو في مدى زمني غير بعيد، فإن انشغال كل شعب بهمومه الداخلية ومحاولة استنقاذ وطنه من نظام الطغيان فيه، بكل التبعات الجسام التي تفرضها المرحلة الانتقالية، قد صرف الاهتمام مؤقتاً ـ عن قضية الصراع مع العدو القومي الواحد.
ذلك أن الأنظمة التي كانت قائمة قد دمرت طاقات شعوبها وأفقرتها وشغلتها في همومها الداخلية، خصوصاً أنها كانت محرومة من حقوقها الطبيعية في أوطانها، في حين استولى أهل النظام في غالبية «الدول» على الموارد والقدرات وعملوا بكل طاقاتهم على تحريم تعاطي الشعوب العمل السياسي بأفقه الوطني، وبالتالي حرمان هذه الشعوب من حقوقها في أوطانها، فكيف بمواجهة المحتل الإسرائيلي أو الطامع الأجنبي.
بل إن المقاومة الباسلة في لبنان قد كشفت، وإن هي لم تقصد ذلك، أن هذه الأنظمة المتحكّمة بشعوبها، ضعيفة في مواجهة العدو بقدر ما هي مستأسدة على أهلها، تمنع عنهم حقوقهم الطبيعية في أوطانهم، وتجعل من ذاتها بديلاً من «الدولة» حيث استطاعت أن تحكم فتتحكّم، ملغية دور الشعوب تماماً، متسبّبة في إضعاف قدراتها ومن ثم التذرع بالضعف للهرب من مواجهة العدو الأصلي.
ولقد خافت هذه الأنظمة العربية من المقاومة الباسلة في لبنان ربما أكثر مما خاف العدو الإسرائيلي بعد أن واجهته بكفاءة نادرة، فتخلت عنها وهي تقاتل، ثم تواطأت على انتصارها حتى لا تتحوّل إلى قدوة وإلى عامل تحريض ضد الأنظمة المتخاذلة، سواء تلك التي هربت إلى الصلح مع العدو الإسرائيلي مقتدية بسابقة أنور السادات، أو تلك التي لجأت إلى الحيلة بتقديم التنازل إثر التنازل طلباً لأي سلام يحميها حتى لو ذهب بكرامة الأمة وبأهلية العديد من الدول العربية الغنية التي ترى في الحفاظ على مصادر ثرواتها (التي تذهب بمجملها إلى الخارج ـ حليف إسرائيل) قضيتها الأعظم قداسة من تحرير فلسطين أو من مواجهة مشاريع الهيمنة المشتركة (الأميركية ـ الإسرائيلية) على الأرض العربية جميعاً.
وبديهي أن تتبدى طبيعة العلاقة الشوهاء بين مجمل الأنظمة العربية وشعوبها في ضوء الانتصار المجيد الذي حققته المقاومة الباسلة في لبنان، والتي أفادت من الهامش الديموقراطي في نظامه الأشوه، لكي تؤدي واجبها الوطني بامتياز.
ذلك أنه ليس من شعب عربي علاقته سوية بدولته، واستطراداً فليس من نظام حاكم في أي بلد عربي علاقته بشعبه سوية، تستوي في ذلك الأنظمة الملكية والجمهورية، وإن كانت المشكلة أعظم وضوحاً في الجمهوريات التي صيّرتها أنظمة الانقلابات العسكرية أعتى وأقسى على شعوبها من الممالك والسلطنات والإمارات التي وهبتها الطبيعة من الخيرات ما يمكنها من إلغاء دور شعوبها (وهي في الغالب الأعم مجاميع من الرعايا الذين لم يعرفوا الدولة أصلاً) وتزيين واجهاتها بالذهب.
صار النظام في الأقطار العربية جميعاً بديلاً من الدولة، بل هو ـ في الغالب الأعم ـ «فوق الدولة»… وفي كل الحالات فإنه يتصرف بالدولة تصرف المالك بملكه، لا فرق بين نظام ملكي وآخر جمهوري، سلطاني أو أميري، ديموقراطي برلماني ـ كالذي في لبنان!! ـ أو عشائري قبلي أخذ الأرض ومن وما عليها (وما تحتها!) بالسيف، واعتبرها غنيمة حرب. وكثيراً ما توجه كل من هؤلاء إلى «شعبي الكريم»، متكرماً على الرعايا بأن يرفعهم إلى مستوى الشعب على أن يظل بين أملاكه..
وإذا ما استثنينا مصر والمغرب فإن «الدولة» حدث طارئ على معظم الأقطار العربية، وبالتحديد في المشرق، وهي ـ في الغالب الأعم ـ قد تم تسليمها «جاهزة» من فوق رؤوس الشعوب التي تم تقطيعها أحياناً، أو دمج بعض المقاطعات أو الولايات السابقة في أحيان أخرى، أو رسم الخرائط على قواعد دينية أو طائفية أو إثنية أو مختلطة متشابكة، وبحيث تكون جميعها ضعيفة وعاجزة عن بناء أسباب وجودها ومنعتها وتقدمها..
ولقد تهاوت الأنظمة التي ورثت الحقبة الاستعمارية مع كل ما أخذته عن الغرب من «مؤسسات» بنتها بالتقليد مع بعض التعديلات التي فرضها «أقطابها»، وهكذا فإنها لم تجد من يدافع عنها حين خلعتها الانقلابات العسكرية التي بررت توليها السلطة بضرورة الرد على الهزيمة في فلسطين.
[ [ [
واضح أننا نشهد، حالياً، انتهاء هذه الحقبة في المشرق والمغرب معاً وعبر انتفاضات شعبية حقيقية تعلن نهاية حقبة الانقلابات العسكرية والأنظمة العسكرية التي حاولت أن تتخلص من البزات والقبعات وأن تقدم نفسها كواجهات مدنية مزينة ببعض شكليات الحكم الديموقراطي: برلمان «ينتخب» بالتعيين أو بتنسيب أعضائه إلى حزب النظام الحاكم ليقولوا «نعم، نعم»، وحكومات تأتي وتذهب من دون حساب إلا ممّن أتى بها ثم أعفاها ليحمّلها مسؤولية الفشل.
كانت البداية في تونس… ولقد استهان النظام بانتفاضة البوعزيزي مطمئناً إلى قوته التي لا تحد، فالاستفتاءات المنظمة جيداً تعطيه نسبة تداني المئة في المئة، و«الشعب» مستكين، لا أحزاب معارضة جدية في الداخل، ولا اعتراض من «الدول» ذات النفوذ غير المحدود، في الخارج، وبالتالي فالمنتفضون «خوارج» يمكن القضاء عليهم في يوم أو بضعة أيام، ويعودون بعدها إلى الطاعة مستسلمين!
ثم جاءت ثورة مصر المباركة من حيث لا يتوقع أعظم المتفائلين بقدرات شعبها. نزلت الحشود إلى الميدان، بالآلاف بداية، ثم صارت تتزايد وتتعاظم حتى صارت بحراً من المعترضين يمتد من السويس إلى القاهرة، ومن أقصى الصعيد إلى البر الغربي. وكان النظام المطمئن إلى نجاحه في تزوير الانتخابات يفاضل بين إفساح المجال أمام «الابن» ليرث الأرض ومن عليها فإذا ما تعذر فالأب بصحة جيدة تمكّنه من التجديد لنفسه ولاية جديدة مفتوحة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وكان طبيعياً أن تمتد الانتفاضة إلى معظم الأقطار العربية، حيث النظام يختصر الدولة، بشعبها ومؤسساتها، وحيث الرئيس ـ الملك يختصر النظام والدولة والشعب جميعاً.
وحده النظام في سوريا كان يفترض نفسه خارج البحث، مستنداً إلى بعض نجاحاته السياسية، عربياً وإقليمياً ودولياً، لا سيما بعد الاتفاق مع تركيا، واندفاعه في سياسة الانفتاح الاقتصادي، بناء على نصائح أصحاب المصلحة فيه.
وحتى عندما تفجرت الحادثة الدموية البشعة في درعا، ظل النظام مطمئناً إلى أنها حركة اعتراض محلية محدودة على تصرف موظف أرعن يستحق عقاباً شديداً، أرجئ تنفيذه بغير مبرر، فاشتعل الغضب وأخذت دائرة النار تتسع، وأجهزة أمن النظام تطمئنه إلى أنها «محدودة» و«وافدة».
لكن الرصاص ظل يدوي في مختلف أرجاء سوريا، وفرض على الجيش أن ينغمس في المطاردات التي لا تنتهي «لزمر مسلحة» و«عصابات» مجهولة الهوية السياسية، وإن تزايد الإيحاء بمسؤولية «الإسلاميين»، سواء أكانوا «إخواناً» أم «سلفيين»..
وهكذا تعطلت احتمالات الحوار الوطني الذي كان النظام قد وعد بتنظيمه وحدد له المواعيد، وانتهى مؤتمر التشاور إلى نتيجة بائسة، لأنه كان مجرد مدخل إلى الحوار الموعود، وانتهى بأن جعل ذلك الحوار يسحب من التداول.
[ [ [
ها هي العروبة مهددة بأن تخسر قلبها، ومثل هذه الخسارة أوسع من أن تحد وأخطر من أن تعوّض… فسوريا كلها، بشعبها أساساً، ودولتها، كانت سنداً عظيماً للمقاومة وعامل دعم وتعزيز مكّنها من الصمود العظيم حتى الانتصار المجيد.
ومن أسف فإن الخوف على سوريا بات اليوم أعظم من بهجة الانتصار في الحرب الإسرائيلية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان