نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 14 كانون الأول 2001
فجأة أُلقي أو أُسقط على كاهل فلسطين عبء تحرير العالم!
إلى ما قبل فترة وجيزة كانت فلسطين تستصرخ الدنيا بلسان الثواكل من أمهاتها والأيتام من أطفالها والمقطّعة أوصالهم من رجالها، بلسان المنسوف من بيوتها، المقتول من أشجارها، المهدّم من مخيمات لجوء اللاجئين كرة أخرى من أهلها، المصادرة حقوق شعبها في أرضه وفي تقرير مصيره فوقها وبها وفيها.
كانت فلسطين المنفية، المنسية، المتروكة لإرهاب الدولة في إسرائيل، المبعدة والمستبعدة عن دائرة الاهتمام العربي، منكوراً عليها نسبها الممهور بدمها.
كانت تنادي ولا مجيب، تستغيث ولا من ينجدها أو يحميها من الاغتيال.
إلى ما قبل فترة وجيزة، كان العالم الغربي المسيحي يكاد ينكر عليها انتساب السيد المسيح إليها، فإذا أجبرته وقائع التاريخ حاول تهويد الجغرافيا، وجعل »رسالته« مجرد امتداد مزوّر للخرافة التوراتية.
ها هي فلسطين اليوم تقف وحيدة ليس معها إلا دمها، تفتقد أهلها فيشيحون بأبصارهم عنها ليتابعوا ما يجري لأفغانستان، ثم يتحسسون رؤوسهم وينكرونها ثلاثاً قبل صياح الديك.
ها هي تواجه بصدرها المثخن بالجراح »الحرب الأميركية على الإرهاب«، فتفضح الزور والتزوير فيها، وتكشف التواطؤ بين جلادها الإسرائيلي وبين »الكاوبوي الكوني« الذي يحاول بذريعة تفجيرات 11 أيلول أن يصادر حق الشعوب في التحرر، وفي بناء بلادها، وفي الانتماء إلى العصر بغير أن تخسر احترامها لنفسها وحقها في معتقداتها الدينية كما في ثرواتها الطبيعية وفي حماية مصالحها الوطنية.
إن فلسطين مطالبة اليوم بإنقاذ المسيحية ومعها السيد المسيح، والإسلام ومعه الرسول العربي محمد بن عبد الله، وحق الإنسان في أن يعيش بكرامة فوق أرضه.
إن فلسطين المحاصرة، الأسيرة، المضرجة بدمائها، المجوعة، العطشى، المفقرة حتى ليكاد أهلها لا يملكون ثمن رغيف يومهم، مطالبة الآن بتصحيح مسار التاريخ في العالم كله!
إنها مطالبة بأن تفرض على أرباب القوة أن يعترفوا بالمقاومة نقيضاً للإرهاب، فهي تحرر الإنسان الذي يسحقه طواغيت هذا الزمان.
وهي مطالبة بأن تعيد إلى العالم الوعي، وإلى الحقيقة اعتبارها، وإلى الإنسان احترامه لذاته.
إن المحاصَر في فلسطين الآن هو إنسان القرن الحادي والعشرين، بأحلامه وطموحاته، بمعتقداته وقيمه السامية، بحقه في أن يولد ويعيش في بيته، وفي أن يؤمن بربه كما يراه، وفي أن يمارس إنسانيته بحقوقها الطبيعية، أي الحق في الصحة والتعليم والانتماء إلى أرضه والتعبير عن رأيه بغير قسر.
إن فلسطين التي تجتمع عليها اليوم آلة الحرب الأميركية وجنون الدم الإسرائيلي والتنصل الدولي والتجاهل العربي، هي النقيض الدموي الحي لما جرى ويجري في أفغانستان، وشعبها الشهيد يقدم النموذج الصح لذلك المسخ المسمى أسامة بن لادن وادعاءاته الخادعة والمزورة.
إن فلسطين تدحض بدمها كل الادعاءات التي برّرت بها واشنطن حربها على أفغانستان وشعبها، كما تفضح كرة أخرى الحلف المقدس بين إرهاب الدولة في كل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
إن فلسطين تقدم عبر مأساتها الصورة الأصلية لجورج و. بوش فإذا هو لا يختلف إلا شكلاً عن أرييل شارون.
إن فلسطين اليوم هي آخر ثورات الإنسان، والهزيمة فيها كونية والنصر كوني.
والهارب من فلسطين، اليوم، يخرج من التاريخ.
أما من يسعى إليها ليساندها، ولو بأضعف الإيمان، فإنه إنما يتقدم نحو غده.
هل بين العرب مَن يسمع أم هم مشغولون بآخر أخبار الحصار في تورا بورا، وآخر المتوقع من ضروب العقاب على كل من يفكر بالمقاومة أو بالحرية أو… بالله، عز وجل، سواء عبر الإنجيل أو عبر القرآن الكريم؟!