هل يتواضع الإنسان إزاء الطبيعة؟ لا يبدو الأمر كذلك ما دام يحكمه نظام اجتماعي سياسي هو الرأسمالية التي تنظر إلى الناس باستعلاء وعدائية في ما يشابه نظرة الإنسان إلى الطبيعة.. وكما يستغل الرأسمالي إخوانه من الطبقات الدنيا الذين يعملون لديه، يستغل البيئة الطبيعية دون اعتبار لتوازناتها التي تثير اختلالاتها زلازل وأعاصير وفيضانات، وما ينتج عن ذلك من كوارث تصيب البشر.
مع خروج “الإنسان” من فضاء الكرة الأرضية إلى الفضاء “الكوني” تضاءلت الأرض بنظر أرباب النظام، وطمع هؤلاء بتنظيم رحلات “سياحية” ليس للإستكشاف فقط، بل تلوح وراءها التوقعات والتمنيات بـ”إستعمار” الفضاء. الفرق بين اليسار واليمين هو أن اليسار يعتبر أن للرأسمال حدود، بينما يناقضه اليمين باعتقاده أن الحدود معدومة وأن الجشع لا حدود له.
كان القرن العشرون عصر حروب الإنسان ضد أخيه الإنسان. في القرن الواحد والعشرين يبدو أن الإنسان في حرب ضد الأرض؛ وهي، كما يبدو من تتابع الكوارث في مختلف مناطقها، تأخذ بالثأر من الإنسان الذي تعالى عليها واحتقرها. لو كانت الأرض تتكلّم لذكّرته بالجرائم المرتكبة حيال البيئة الطبيعية والبشرية، وحروب الإبادة حيال الحيوان والإنسان والنبات والتراب والهواء، ولقالت له إنها ليست فقط مزبلة للنفايات والإنبعاثات، وليست فقط منجماً للمواد الأوليّة ومصدراً للربح وتكديس الثروات، وعليه أن يتحمل مسؤولياته تجاهها كما حضنته هي عبر آلاف السنين.
بعد أن سادت فلسفات قالت بموت الله، جاءت حروب عالمية أدت الى موت البشر وإبادة كثيرين منهم، والآن يأتي دور الأم الأرض (كما سمّاها المؤرخ العظيم توينبي) إعتقاداً من أرباب النظام بنظرية أن الأرض مجرد وعاء والطبيعة مجرد مجال للاستمتاع الرومانسي. في مطلع القرن العشرين، صدرت كتبٌ لمشاهير عن عالم جديد وشجاع، وفي أواخره صدرت كتب لمشاهير أيضاً، في عالم السياسة والأكاديميا، عن عالم يحترق. يبدو أن الشجاعة كانت تهوراً وعدم قابلية لدى أرباب النظام لتحمل المسؤولية، مما أدى إلى تحولات مناخية إزاء رفض تخفيض الانبعاثات الكربونية، فتشهد البشرية، بل تعاني ما تعانيه من كوارث. بكل صفاقة ألغى دونالد ترامب مفاعيل مؤتمري باريس وكيوتو اللذين يحدان من الانبعاثات الكربونية من أجل الحد من ارتفاع حرارة الجو لأقل من درجتين مئويتين.
تتوازى علاقة الإنسان بالطبيعة مع علاقة الإنسان بالإنسان، أو ربما الأرجح أنها تنبع منها. يصعب تصديق أن علاقة تعاون أو نظام إشتراكي بين البشر لن تنعكس على العلاقة مع الطبيعة. إن نظام الحقد والإستعلاء الذي يعيشه البشر في جانب من جوانب حياتهم يمتد إلى الجوانب الأخرى.
عندما يستبيح الإنسان نفسه ومجتمعه في نظام إجتماعي قائم على الخضوع لما هو خارج النفس البشرية وخارج الضمير أو في تنافٍ معه، ويجعل الربح هدفاً للحياة، لا الإنتاج بما فيه الربح، وسيلة للحياة أو أداة للعيش الكريم، يكون طبيعياً أن تصبح علاقته مع البيئة الطبيعية قائمة على التنافر لا على الانسجام. في نظام من هذا النوع يعيش البشر لا في تماه مع الطبيعة، ولا على أنهم جزء منها بما يوجب الحفاظ عليها، وكأن في ذلك حفاظ على النفس. العلاقة مع الطبيعة جانب من جوانب النظام الاجتماعي السياسي. هنا يكمن خطأ جمعيات البيئة التي تفصل الأمر عن السياسة وخطر نظام الاستبداد الذي يستهين بالطبيعة، كما يستهين بالجنس البشري. والرأسمالية لا ينتج عنها إلا أنظمة استبداد مهما كان التشدّق بالديموقراطية، ولا ديموقراطية دون مساواة. والرأسمالية نظام اللامساواة التي بدورها لا تكون حقيقية إلا عندما تشمل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية كما السياسية.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق