“إنه في يوم الاثنين الواقع فيه الثالث من كانون الأول (ديسمبر) 1990 انتهى الحصار الإسرائيلي لبيروت التي استعادت وحدتها وكبرها موفرة للجيش دوراً وطنياً ولمشروع الدولة شرط الحياة”.
… بعد ثماني سنوات سوداء، وبعد مسلسل من الحروب التي تورطت فيها الدولة (وجيشها) تحت القيادة الكتائبية للحكم ومشتقاتها أو إفرازاتها (ميشال عون)، ها هم “الضحايا” يشهدون بداية النهاية الفعلية لهذه الحرب التي كانت تجد دائماً من ينفخ في نارها كلما همدت ويتنقل بها من منطقة إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة ومن حي إلى حي حتى صارت النكتة واقعة: سبحان الباقي في الحي، أو سبحان الباقي حياً في بلد الموت وادلمار والشقاء المقيم!
كان “خروجهم” عظيماً،
ولقد قصدت “القوات اللبنانية” أن تجعل “خروجها” عرضاً للقوة وإيحاء بالاستمرار، فاستأخرته حتى لا يغطي عليه ما عداه من تطورات وأحداث، ووفرت له أوسع مساحة إعلامية ممكنة، وأقفلت على الناس الطرق حتى يروا “عظمتها” بأم العين، وتقصدت أن تستعرض عضلاتها على الجيش الفقير ودولته قيد التأسيس.
لكن النتائج جاءت معاكسة للتوقع،
فالناس فهموا خروج “القوات” من بيروت انتهاء للزمن الإسرائيلي، أقله في العاصمة العربية بيروت، وبالتالي انتهاء لزمن الحرب الأهلية… وما قيمة السلاح إذن، كائنة ما كانت كمياته وقوة نيرانه ومصادره، وسواء أكان قد جاء “هدية” من العدو الإسرائيلي، أم من بعض “الشركاء في الأحقاد” من العرب، أم كان بعض ما نهب من الدولة وجيشها بقرار من قمة السلطة فيها أو بغير قرار وبالسلب المباشر كما حدث لثكنات صربا وأدما وحالات والقاعدة البحرية في جونية الخ.
ومما نشط ذاكرة الناس، التي تريد أن تنسى، تلك الأشرعة البرتقالية اللون على الدبابات والآليات، وهي ترتبط عضوياً بطوابير الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982 وما أعقبه من تشطير للبلاد وعاصمتها وتمزيق للنسيج الاجتماعي وتهميش للدولة خصوصاً بعدما تورطت مؤسساتها الدستورية في تشريع الخطيئة المميتة وتحليل المحرمات (اتفاق 17 أيار 1983 وما بعده)…
إن بيروت تستعيد حجمها فتعود كبرى بقدر ما تلفظ مع بقايا الغزو الإسرائيلي والحصار المذل “الجيش الرديف” للطائفة التي كانت عظمى والميليشيات التي استولدتها العدوى لدى سائر الطوائف.
إن بيروت تتسع فتمحو آثار القدم الهمجية: كما تتصل مع انقطع مع صيدا وصور جنوباً ومع طرابلس شمالاً اتصال.
إن بيروت تتسع فتمحو آثار القدم الهمجية: تصل ما انقطع مع دمشق شرقاً كما تصل ما انقطع مع صيدا وصور جنوباً ومع طرابلس شمالاً اتصال الجزء بالكل والعاصمة بالقلب والجناحين.
ولقد خرجت “القوات”، كما خرجت سائر الميليشيات، وكما خرجت قوات الغزو الإسرائيلي من قبل، بغير وداع،
وخرجت صغيرة بتاريخها كائناً ما كان حجمها، مكروهة من “الشعب” الذي ادعت ذات يوم إنها إنما وجدت لتحميه، منبوذة لا تجد من يستقبلها إلا الخائف والمستكين بالعجز لقوة القهر والسلاح!
ابتداء من اليوم، الثلاثاء في الرابع من كانون الأول 1990 صار السؤال: من يحمي بيروت الكبرى، واستطراداً مشروع الدولة، من الانتكاس؟!
لقد سقط الغزو وها آخر آثار الحصار الإسرائيلي للشارع العربي، للمكتبة العربية، للجامعة العربية، للنوارة العربية، للأميرة العربية، بيروت، تندثر وتضمحل،
ولكن… من لبيروت الكبرى يحمي وحدتها ودورها الذي لا غنى عنه ولا بديل له؟!
ومن للدولة طالما أن الحكم لم يثبت أهليته تماماً بعد؟!
ومن للجيش الذي يفتقد حتى الساعة الإمكانات المادية والعيون الكاشفة ودعائم الوحدة وأركان القيادة ووضوح الدور السياسي بل الوطني الذي يفترض كشح الغيوم الكالحة وريح السموم الطائفية؟!
لقد انتهى زمن الحصار.
فمتى وأين وكيف يبدأ تحصين بيروت، ومن ثم الدولة، وبالتالي مشروع الوطن من حمى الطوائف التي علمتنا التجارب إنها بين مسوغات الغزو وبين أدوات الحصار وبين أسلحة الدمار الكثيرة التي استعرضت “القوات” على اللبنانيين بعضها يوم أمس.
من للأميرة يحميها من القتلة واللصوص وقطاع الطرق الذين هربوا حين جاءت “الشرطة”، ولكنهم ما زالوا يتربصون بها في الجوار؟!
من الذي يدخل بعدما خرج الذين كان لا بد أن يخرجوا لكي تسقط الأوهام التقسيمية ودول الطوائف والكانتونات… الإسرائيلية!
تلك هي المسألة، وهي مسؤولية وطنية شاملة والمتنصل منها عدو لبيروت والدولة ومشروع الوطن.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان