لا تحزن يا سعد الدين الشاذلي، فمع اعتقالك في مطار القاهرة تم الاعتراف “الرسمي” بك كأحد أبطال الأمة في تاريخها الحديث.
السجن، كالموت، اعتراف وتكريس للبطولة، وإنعاش للذاكرة المجهدة لشدة ما أثقلت بالهزائم والأحزان والخيبات، بأن “التاريخ” العربي ليس مجرد صفحات سوداء ينوء بحملها الجيل الآتي فيهرب منها بالتغربق أو بالعبثية أو باحتقار الذات والاستكانة لأي قوي طامع أو مهيمن.
في الجاهلية كان “العرب” يأكلون “آلهتهم” التي اصطنعوها من التمر، إذا جاعوا،
… وبعد الجاهلية تعود “العرب” أن يدمروا أبطالهم، وأن يعاقبوا من يكسب الحرب منهم من غير أن يموت، بوأده حياً بعد التشهير به وإنكار إنجازه، لأن حكامهم الصغار يخافون أكثر ما يخافون من أبطالهم!
إن البطولة ترتبط في ذهن العربي بالشهادة ، بالموت، فإذا ما انفصلت عنه سقطت. البطل الحي يعاقب وبقسوة حتى يصغر فلا يحجب الحاكم التافه أو يكسف شمسه أو يكشف عجزه، وهذا بيت القصيد!
لا يستطيع الحاكم أن ينحرف و”الأبطال” واقفون كالجبال. شرط الانحراف أن يسقط “الكبار” القادرون على قول “لا”، والذين أثبتوا بالملموس أهلية الأمة لإحراز النصر على عدوها العاتي.
وما كان ممكناً أن يبدأ أنور السادات رحلة السقوط وفي جيش مصر العربية قادة هرب منهم الموت، مع العدو، في الميدان، فعبروا القناة وحطموا خط بارليف مسقطين أسطورة إسرائيل التي لا تقهر وجنرالاتها العباقرة الذين لم تلد الأمهات نظراء لهم في أربع رياح الأرض!!
وأزيح سعد الدين الشاذلي ورفاقه الذين قاتلوا فانتصروا وفتحوا باب الحلم على مصراعيه.
للحكم العظيم رجال عظماء، أما التافهون من الرجال فيغرقون في وحل الواقع ويبنون به أوهام “الانفتاح” و”السلام” والازدهار الاقتصادي والحريات العامة والديموقراطية التعددية مع الحرص على ادعاء الغيمان و”زبيبة” الصلاة على الجبين!
هل كان ضرورياً أن يستشهد سعد الدين الشاذي، وأن يروي بدمه رمال سيناء، أو يصبغ بها مياه قناة السويس، ليصير – بالمعنى الرسمي – بطلاً وطنياً تقام له التماثيل، ويطلق اسمه على الشوارع والأندية وقاعات التدريس في الجامعات وعلى كليات أركان الحرب والساحات العامة في مصر وخارجها؟!
هل مصدر البطولة دمه أم دم العدو؟!
هل البطولة صفة لاحقة بالموت: دائماً هو “الشهيد البطل”؟! ألا مجال لبطل حي ينفع أمته بعبقريته التي أثبتها مرة في المعركة، ويمكن أن يثبتها في معارك لاحقة، مباشرة أو عبر تلاميذه ورفاقه الذين يمكن أن يأخذوا عنه؟
وبغير أن نظلم الأبطال الذين قضوا واكتسبوا شرف الشهادة، أفليس من حق الذين “ينتظرون” أن يكونوا هم أيضاً “أبطالاً” يرزقون؟!
هل يحرم المنتصر من حقه بأن يشرف بمرتبة البطولة فقط لأنه ربح الحرب وبقي على قيد الحياة؟!
وهل المكافأة، بالمنصب الفخم والمرتب الضخم، فقط للموظف والمنفذ المطيع وربما للجبان الذي تلطى حتى إذا صمت الرصاص سار في الاستعراض منفوخ الصدر كديك الحبش؟!
لقد اختلف سعد الدين الشاذلي، القائد المظفر، مع قيادته السياسية بينما حرب تشرين المجيدة، أو حرب العبور المباركة، ما زالت محتدمة، ونتائجها غير محسومة، وهي تلك النتائج التي سرعان ما انقلبت من نصر مؤزر إلى هزيمة عسكرية وسياسية مدوية بعدما أصر أنور السادات على الوفاء بتعهده لأصدقائه الأميركيين بدلاً من الوفاء بالتزامه حيال وطنه وأمته… بل على حساب وطنه وأمته.
وكان أن “كوفئ” الشاذلي بإخراجه من الجيش ونفيه سفيراً خارج مصر، في بريطانيا أولاً ثم في البرتغال.
لكنه لم يستطع الصمت على الخيانة الصريحة في كمب ديفيد فكان أن أعلن رأيه صريحاً، بفجاجة من يرى الشهداء من أبناء وطنه يذبحون مرة أخرى على عتبة العدو… ومعهم هذه المرة من لم يستشهد في الميدان!
فأين الجريمة في هذا؟!
لقد اختلفت أكثرية العرب مع أنور السادات وإدانته، ثم إن نفراً من شعب مصر قد عبر عن اختلافه مع “الرئيس المؤمن” و”بطل العبور” ومقاسم مناحيم.
بيغن جائزة نوبل للسلام، فأفصح طريقة وأصرح لغة إطلاقاً، وإن وقع الاختلاف على صوابيتها: بالاغتيال العلني جهاراً نهاراً، وعلى أرض المعارض بمدينة نصر، في ظاهر القاهرة، في “حادث المنصة” الشهير، وقبل انقضاء ثماني سنوات على النصر الذي حوله – عبر خيمة الكيلو 101 وانتهاء بكمب ديفيد – إلى هزيمة قومية شاملة.
فلماذا معاقبة سعد الدين الشاذلي وحده؟!
بل لماذا معاقبة المختلف، خصوصاً بعدما رحل سبب الاختلاف وهو – في أقل تعديل – لا يحظى بإجمال الأمة أو شبه إجماعها أو برأي كثرتها في أن إنجازه “التاريخي” يندرج في سجل البطلات؟
لقد وقع الاختلاف أيضاً في صفوف قادة العدو.
لكن الاختلاف لم يتحول سبباً لإنكار بطولة البطل، وإقالته، ومحاكمته والحكم عليه ومعاملته معاملة المجرم إذا حاول العودة إلى “وطنه”.
حتى المختلفون آنذاك، والمختلفون بعد ذلك وحتى اليوم، أعضاء في حزب واحد في حكومة واحدة تسعى لاستثمار نصرنا المضيع والمختلس والذي تحول إلى نصر لهم وهزيمة لنا، كأنجح ما يكون الاستثمار!
إنهم يختلفون في ما بينهم ويتفقون في كل الحالات علينا،
ونحن نختلف على العدو ذاته، فكيف يمكن أن يكون اتفاق أو وفاق وطني؟1
وكلمة أخيرة إلى الرئيس حسني مبارك،
ليست لك هذه الفعلة، ومهما بدا شكل “العقوبة” المهدد بها سعد الدين الشاذلي مسلكياً فهي في جوهرها سياسية وخطيرة الدلالة، إذ تبدو وكأنها فاتورة لإسرائيل التي ما زالت وستبقى عدواً مهماً تعددت المعاهدات والمفاوضات معها.
وحرام أن نضيع واحداً من أبطالنا الميامين الذين أكدوا علاقة هذه الأمة بالعلم والكفاءة والتخطيط والفكر والعقل الاستراتيجي، بينما أطفالنا يفتقدون نموذج البطل وسط هذا الركام من الحكام الذين سرقوا أسماء الله الحسنى ثم لم يأخذونا إلا إلى مزيد من الهزائم.
ولسوف تبقى، أيها السيد الرئيس، معتقلاً ما بقي سعد الدين الشاذلي معتقلاً، ولسوف يفرج عنك ساعة تفرج عنه،
والسلام على من أتبع الهدى.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان