قبل عشرين سنة تماماً، اقتحمت “الثورة” هيكل منظمة التحرير الفلسطينية، فاستولت على قيادة العمل الرسمي والشعبي، السياسي والعسكري، وصار ياسر عرفات – الناطق الرسمي باسم حركة “فتح” حتى يومها – “القائد العام” لكل المؤسسات الفلسطينية السياسية والعسكرية، النقابية والمهنية، الدبلوماسية والاقتصادية وصولا الى الفنون الجميلة.
ولقد جرّت حركة فتح الفصائل الأخرى، فأعطتها موقع الأخ الأصغر في صيغة “الحكم” الجديدة، ملغية دور السياسيين التقليديين ومن يوصفون عادة بالتقليديين اللهم إلا كملحقين أو مستشارين يكلفون بين الحين والآخر – وحسب الرغبة – بالأدوار التي يرفضها أو لا يوسخ يديه بها المناضل والثوري خريج مدرسة الكفاح المسلحز
في ذلك الوقت، سال حبر كثير في تبرير دخول “الثورة” إلى ساحة العمل الرسمي العربي (والدولي)، وقيل – في جملة ما قيل – إن “الكفاح المسلح” سيقود الشعب (والأمة) في اتجاه تحرير فلسطين، وهو الهدف الذي عجزت عنه المنظمة بعدما “استوعبتها الأنظمة” وشلت حركتها وعطلت قرارها الوطني المستقل.
اليوم، وبعد عشرين سنة، تقف القيادة الثورية “القديمة” أمام المجلس الوطني الفلسطيني لتقول كلاماً ما كان ممكناً بأي حال توقع صدوره عن المغفور له أحمد الشقيري، أول رئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بل “القائد المؤسس” لهذه المنظمة التي رعت، في البدايات، العمل الفدائي وحاولت أن تعتبر “الفصائل” الذراع العسكري للمنظمة الرافعة لواء التحرير من النهر إلى البحر.
لكأنما هاجرت الثورة عائدة إلى الحلم،
ولكأنما صارت “فتح” في موقع الرئاسة لحكومة ائتلافية في المنفى تجمع أحزاباً رصيدها الأساسي الاختلاف الشديد بين طروحاتها وممارساتها في الماضي وبين تصورها وأوهامها حول المستقبل البائس المرتجى.
ثم نبذ “الكفاح المسلح”، عملياً، منذ زمن بعيد، وحتى من قبل أن يعلن نبذه رسمياً عبر “بيان القاهرة” الشهير الذي يسعى الساعون الآن لتضمينه في “البيان السياسي” العتيد المتوقع صدوره كمحصلة سياسية لأعمال المجلس الوطني، الذي تحوله الأغراض والشطارات والحركات إلى مهرجان خطابي أو مجرد تظاهرة أو مجرد “عرس” للعازب الدائم ياسر عرفاتز
وتم التخلي عن شعار التحرير وعن “فلسطين” من النهر إلى البحر، وانتصرت “الواقعية” التي تقول بدولتين على أرض فلسطين إحداهما قائمة وقادرة وقوية ولاغية لما عداها هي “إسرائيل” والثانية هي هدف وطموح أو ربما حلم يتم السعي لتحقيقه وإقامته على بعض البعض من فلسطين، وتحديداً على مساحة قطاع غزة والضفة الغربية ومعهما القدس (العربية).
في خط مواز تخلى العرب عن فلسطين للفلسطينيين، وخرجوا (بالرضا غالباً) عن ساحة الصراع الذي كان من طبيعة قومية، وكان يحمل الاسم الصحيح (الصراع العربي – الصهيوني)، قائلين لشعب فلسطين: اذهب أنت وربك… فصالحا، ونحن مع قرارك الوطني المستقل في هذا الشأن بالذات!
كان الفلسطينيون يتهمون في الماضي “أشقاءهم” العرب بأنهم خانوهم في حرب 1947 – 1948، وإنهم أخرجوهم من أرضهم تحت وهم إنهم سيقاتلون لتحريرها، وما هي إلا أيام حتى يعيدوهم إليها،
واليوم يشجع العرب “أشقاءهم” الفلسطينيين (الذين لا يحتاجون إلى كثير من التشجيع) على الانحراف والتفريط وبيع معظم أرضهم وحقوقهم مقابل استخلاص ما يمكن استخلاصه منها، لكي يبرئوا في غد ذمتهم، وليقولوا: هم اختاروا وهم قرروا بإرادتهم فلماذا نكون ملكيين أكثر من الملك!
لم تعد فلسطين قضية العرب القومية، ولم تعد عنوان نضالهم من أجل التحرر والوحدة والتقدم،
صارت فلسطين قضية تخص الفلسطينيين وحدهم، وصار النزاع حولها فلسطينياً – إسرائيلياً ولا طرف ثالثاً فيه،
وهكذا ارتاحت القيادات جميعاً، العربية من مغبة مطالبتها بإنجاز مهمة التحرير، والفلسطينية من عبء الالتزام بموجبات الصراع القومي.
ولهذا تجد الانتفاضة المجيدة نفسها يتيمة.
الكل يتعامل معها “كاستثمار” في أحسن الحالات.
لا أحد يريدها أن تنمو ويصلب عودها فتتحول إلى ثورة عارمة وشاملة تهز المعادلات وتقلب الأنظمة وتخلخل الكيانات، إذا ما قدر لها أن تكسر الطوق وتفلت من الحصار المشترك الذي يفرضه عليها الحكام العرب (بمن فيهم الفلسطينيون) والإسرائيليون بمن فيهم الصقور و”الحمائم” الأكثر تطرفاً!
الانتفاضة في فلسطين، أو ما تبقى منها، بعد شطب فلسطين 1948 التي أقرت قيادات العمل الفلسطيني بكونها صارت إسرائيلية وصار مواطنوها رعايا للكيان الصهيوني وانتهى الأمر،
الانتفاضة في “الداخل”، ولا صلة أو لا علاقة لها بأي فلسطيني آخر، وعلى الفلسطيني في الأردن – مثلاً – أن يختار بين محضها ولاءه وجهده وقروشه وبين التابعية الملكية الهاشمية،
الانتفاضة في الداخل، والفلسطينيون في الخارج،
والعرب في خارج الخارخ،
والثورة عادت إلى مهجعها الأثير في الحلم،
والمجلس الوطني الفلسطيني يجتمع في الضاحية الهادئة بالجزائر، بعيداً عن الشوارع في المدن والقرى التي انفجرت في انتفاضة الجوع.
وقادة ثورة المليون شهيد بعضهم من قضى (على أيدي رفاقه) فانضم إلى القافلة الطويلة، وبعضهم من ينتظر… في المنفى،
وليس على الأرض العربية غير الحروب الأهلية، أي الحروب العربية – العربية، وكلها تنفعهم كذريعة للخروج النهائي من فلسطين،
على إن الأمر لا يخلو من انتصارات: فلقد حصل عرفات أخيراً على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الأميركية لكي يلقي “خطاب الدولة” من على منصة الأمم المتحدة.
وقبل أربع عشرة سنة ذهب رئيس جمهورية لبنان، باسم العرب جميعاً، ليحمل قضية فلسطين إلى ذلك المنبر الدولي، وذهب ياسر عرفات حاملاً البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى،
واليوم يغيب لبنان في غياهب الحرب الأهلية، ويتعذر عليه انتخاب رئيس جديد لجمهوريته المتهالكة والتي تكاد تمزقها وتدمرها حروب الهرب من الحرب الحقيقية.
أما القيادة الفلسطينية فتسعى وراء وهم دولة لا يكفي غصن الزيتون لإقامتها بعدما أسقطت البندقية في مسلسل الحروب الأهلية التي تورطت فيها وهي تنفذ شعارها الأثير: مهمتنا أن نورط جميع العرب!
… وليس من المفرح أبداً أن يكون هذا هو الإنجاز الوحيد الذي تحقق، خصوصاً وإن هذا الإنجاز يصب في خانة إسرائيل وليس في خانة فلسطين أو هدف تحريرها… من النهر إلى البحر!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان