ليس الاغتيال خطأ، إنه “الخطيئة”.
وليس المنطلق في استنكار الاغتيال هوية الضحية، ولا بالقطع هوية الجاني، بل هو موقف مبدئي يلتزم به الناس عموماً لأنهم يعرفون أن الدم لا يمحو الخطأ بل يكرسه، لأن الدم يستسقي الدم، ويحول المخطئ الملام والمدان إلى “شهيد” وتكتسب دعواه سمات “الرسالة”، وتنسب إليه قوة لم تكن له في حياته وفي ممارساته في حلبة الصراع السياسي.
ومؤكد أن الناس جميعاً، وبغض النظر عن العواطف والمواقف، لا يقرون الاغتيال، سواء أكان هدفه من يعارضونه أم من يوالونه ويمحضونه حبهم والثقة.
فاغتيال “الخصم” يحرم الناس حق الشعور بالنصر حين يهزمون، جهاراً نهاراً، طروحاته وسياساته، بل ويحولهم إلى “جبناء” إذا كانوا يستشعرون أنهم الأقوى، أو حتى إذا كانوا يرون خصمهم الأقوى ولكنهم قادرون على كسب المعركة عليه وفق القوانين الطبيعية للصراع بين تيارات سياسية.
في ضوء هذا الموقف المبدئي لم يتردد لبناني واحد، كائنة ما كانت عواطفه الشخصية تجاه الرئيس أمين الجميل، في استنكار زرع العبوة في الطائرة التي كانت ستطير إليه في قبرص لتنقله في زيارته الرسمية إلى كل من الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية السودان الديمقراطية.
إن اللبنانيين يغطسون في سواد ملابسهم وفي سواد أيامهم وفي سواد ذكرياتهم، نتيجة للحرب المفتوحة التي التهمت عشرات الآلاف منهم، قتلاً وذبحاً وخطفاً وتهجيراً.
على أن أكثر ما سود صفحات هذه الحرب الكريهة كانت جرائم الاغتيال التي استهدفت العديد من قيادييهم ونخبهم المثقفة، ورموز صراعهم، الذي أرادوه وما زالوا يريدونه، سياسياً ومفتوحاً حتى تحقيق الإصلاح السياسي المنشود ليكون لهم وطن وليكونوا مواطنين فيه.
على أن اللبنانيين يستذكرون اليوم، وهم أمام جريمة توافرت الظروف لكشفها قبل أن تقع، كم كانت “الدولة” مقصرة في حماية ما تبقى منها، يوم وقعت فعلاً الجريمة المريعة، جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كراميز
ومع أن الناس يؤيدون، اليوم، كل قرار أو تدبير يؤدي أو يساعد في الوصول إلى الحقيقة وكشف الجناة الذين فخخوا الطائرة التي كانت ستنقل الرئيس الجميل، فإنهم يستذكرون بأسى أنهم انتظروا حتى يئسوا أن تتحرك الدولة وأجهزتها بالفعالية المطلوبة لكشف أي شيء من “الغاز” جريمة اغتيال الرئيس كرامي.
فكما أن هذه محاولة قتل للشرعية، فإن العملية الأولى كانت اغتيالاً للشرعية ممثلة بأحد أهم وأبرز رموزها، بالمعنى الوطني قبل المعنى القانوني.
ولعل التقصير الفاضح يومها بنتائجه السياسية الخطيرة التي ما زلنا نعيش في أتونها حتى الآن، هو الذي زين للجناة أن يحاولوا ارتكاب جريمتهم ضد رئيس الجمهورية اليوم.
… بل لعل الجناة في الحالين هم ذاتهم،
ومؤكد أن الرئيس الجميل كان يستطيع يوم فقد رئيس حكومته أن يفعل أكثر مما فعل، ليس فقط ثأراً للدم المهدور، بل حماية للدم الذي لم يهدر بعد، دم الوطن ودولته والشرعية ومواطنيه.
إن الشرعية واحدة،
والجريمة ضدها واحدة،
وصحيح أن أحداً لم يتهم الرئيس الجميل بارتكاب الجريمة ضد الشهيد رشيد كرامي، حتى بين أعتى خصومه الكثير، لكن الكل اتهموه بالتقصير في كشف ملابسات تلك الجريمة، وبينها كشف الجناة والمسهلين والمتواطئين والمنفذين والأدوات.
لقد كان اغتيال رشيد كرامي نكبة وطنية،
وكان ضياع دمه “والعجز” عن الوصول إلى خيط يساعد على تحديد الجهة الجانية وفضحها ومحاسبة أدواتها، سبباً في أزمة وطنية دمغت ما تلى الاغتيال بطابع انعدام الدولة، حكماً وحكومة، واضمحلال الشرعية وتهالكها، بحيث بات سهلاً تكرار الاعتداء عليها.
في أي حال، كل ما يرجوه اللبنانيون الآن أن تكشف لهم الحقائق كاملة، لعلهم يعرفون ولو متأخرين من قتل رئيس حكومتهم ورمز وحدتهم الوطنية، عبر معرفتهم من حاول اغتيال رئيس جمهوريتهم،
ومرة أخرى، بمعزل عن عاطفتهم تجاهه شخصياً، وعن رأيهم في سياساته،
فالاغتيال خطيئة،
والاغتيال في لبنان عقبة كأداء في طريق التحول إلى وطن.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان