بين الخريف العربي والربيع الأميركي يقع “مؤتمر السلام” لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي وقضيته المركزية فلسطين…
هي مصادفة قدرية. والقدر ماهر في توقيت المصادفات بدلالاتها المختلفة باختلاف المستفيدين والمتضررين منها!
فبين ما تتداوله الأوساط الدبلوماسية هذه الأيام “روزنامة” قد لا تكون مجرد تخمين وهي تفيد إن واشنطن المتعجلة انعقاد “مؤتمر السلام”، ودائماً خلال الشهر الجاري، (تشرين الأول) تتعجل أيضاً نتائجه وتقدر لها أن تظهر قبيل الربيع المقبل، وربما في أواخر شباط وبدايات آذار 1992.
فواشنطن تدرك إن المصادفات لا تتحول تاريخاً، وإن الزمن ليس مجرد امتداد إلى اللحظة، وإن الشعوب – بعواطفها وطموحاتها ووعيها بذاتها ومختزنها الحضاري والثقافي – عناصر متحركة متغيرة متطورة متقلبة ومن الصعب ضبط حركتها بالكومبيوتر، وإنها لا تتلقى ردود الفعل فتنحبس فيها وتلتزم مقتضياتها ولكنها تقبلها، غالباً، إلى مصدر لأفعال تتعدى نطاق المقدر أو المحسوب بدقة وفق مقياس ريختر لرصد الزلازل!
المؤتمر أميركي، بتوقيته وجدول أعماله ونتائجه السياسية المتوخاة.
لذا فالمفاوضة الفعلية مع الأميركي، أكثر مما هي بين “الأطراف” العربية المعنية وبين الإسرائيلي،
وجيمس بيكر ليس مجرد “صاحب رعاية”، وليس “وسيطاً”. إنه صاحب المؤمر بمعنى المسؤولية – المباشرة والكاملة عنه. وهو عبرجولاته الثماني قد تصرف وتحدث بوصفه المسؤول عن المؤتمر ونتائجه وليس مجرد وسيط أو منظم أو صاحب رعاية أو ضيف شرف “كشريكه” السوفياتي.
بل لعل الشوط الأقسى من المفاوضات هو هذا الذي يدور معه، سواء بالنسبة “للأطراف” العربية أو للطرف الإسرائيلي. فعبر هذه المفاوضات تعاد صياغة العلاقات العربية – الأميركية (عبر السوريين، أولاً، ثم الفلسطينيين)، وكذلك العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، واستطراداً الطور المقبل من أطوار الصراع العربي – الإسرائيلي الذي سيكون مضبوطاً داخل سقف هذه العلاقات المتوازية مع واشنطن وعبرها.
وإذا كان مستحيلاً أن يقف الأميركي على مسافة واحدة من العربي ومن الإسرائيلي، فليس متعذراً تضييق الفارق، بحيث يتمايز عن الإسرائيلي ويقصر المسافة مع العربي… مع الوهي بأن مثل هذه النتيجة تنجم عن اقتراب العربي من الأميركي أكثر مما عن ابتعاد الأميركي عن الإسرائيلي مقترباً من العربي.
ثمة وجهان للواقع الجديد، إذن:
1 – لقد انتهى عصر التطابق شبه الكامل بين الأميركي والإسرائيلي،
2 – لا يعكس اقتراب العربي من الأميركي تطوراً نوعياً في طبيعة العلاقة بينهما،
لم يعد الإسرائيلي يملك أن يتصرف، كما في الماضي، بالنيابة عن الأميركي وبتفويض مفتوح منه، ولا عاد قادراً على النطق باسمه والتعبير عن رأيه بقدر ما كان يفعل في الماضي، أيام كان يقوم بدور وكيله وحامي مصالحه الحيوية في المنطقة،
وازداد ضعف العربي فلم يتحول بقوة هذه المصالح إلى مشروع حليف أو شريك بعدما خسر موقع الخصم القوي بإرادة التغيير إبان حركته الثورية التي قصرت عن تحقيق أهدافها ثم إنها لم تعمر طويلاً.
المؤتمرأميركي بالمطلق.
وجورج بوش يدعو ميخائيل غورباتشوف إلى حفل الافتتاح والمشاركة في الرعاية لتكريس الاعتراف به رئيساً للكون، وللإعلان إن ليس إلا ثمة “مركز” واحد في هذا العالم، وإنه ليس للأميركي شريك أو حليف إذ ليس له ند ولا حاجة به لاعتماد المحاصصة.
ومؤكد أن المفاوضة العربية مع الأميركي صعبة، لكن تفاوض هذا الأميركي مع الإسرائيلي أكثر صعوبة…
فالعربي في هذه اللحظة ليس صاحب مشروع. إنه يحاول استنقاذ ما أمكن من حطام مشروع قديم، تآكل عبر الهزائم والخيبات وسوء التقدير أو الإدارة.
والمفاضلة ليست صعبة بين الذات وبين الذكريات،
أما الإسرائيلي فصاحب مشروع طموح: أن يكون قوة إقليمية عظمى.
وأخطر ما في المؤتمر، بالنسبة للإسرائيلي، إنه يضرب مشروعه الإمبراطوري، توكيداً لوحدانية المركز والقرار في النظام العالمي الجديد.
وبين معاني المعركة المحدودة التي انفجرت مؤخراً حول المليارات العشرة بين بوش وشامير إن الإدارة الأميركية قررت إن ليس لها شريك في الخارج ولا خاصة في واشنطن.
هي القوة. هي مصدرها ومركزها ومآلها. وهي مصدر قوة من تريدهم أقوياء وخدمة لمصالحها وضمن مشروعها الأحادي الجانب.
لا مجال لقوى عظمى محدودة، لا في الشرق ولا في الغرب (الأوروبي)، أو “لقوى عظمى إقليمية” لها مشروعها الخاص المتمايز عن المشروع الأوحد للقوة العظمى الوحيدة في الكون.
والبعض يقول: إن تواضع الطموح العربي مفيد، في هذه اللحظة، بقدر ما يهدد التطلع الإسرائيلي إلى دور الشريك الكوني المشروع الإمبراطوري لإسرائيل التي لا يمكنها أن تعيش كدولة عادية… ضمن حدود آمنة ومعترف بها، ومع هامش واسع من التفوق على أعدائها القدامى!
المؤتمر أميركي، والأميركي قادر وقاهر بجبروته. لكنه يريد نجاح المؤتمر. والنجاح بحاجة إلى التواقيع. والتوقيع هو آخر سلاح عربي، والتفريط به لا ينهي التاريخ، لكنه ينهي المتسرع أو المتلهف على ما لا يمكن تحقيقه إلا باختراق الصعب واجتراح المعجزات وحسن القراءة لموقف العدو ومدى التناقض بينه وبين راعيه وراعي المؤتمر.
وخطر جداً أن يواجه العرب الولايات المتحدة الأميركية، ومعها إسرائيل،
لكن الأخطر أن يتنازل العرب للولايات المتحدة ثم لا ينالون منها ولا من إسرائيل بطبيعة الحال الحد الأدنى مما يفترض أن ينالوه تعويضاً عما كان لهم وعما كانوا يطلبونه.
وشرط تضييق حجم التنازل أن يصبح العرب طرفاً واحداً لا أطرافاً متقابلة، حتى لا نقول متناقضة “المصالح” أو متباينة أو متناكفة في مواقفها.
والمدى مفتوح بعد للتنسيق بهدف الوصول إلى موقف موحد يحقق مصلحة الجميع التي يضيعها التفرد على الجميع.
ولعل اجتماع دمشق المتوقع خلال الساعات القليلة المقبلة يحقق مثل هذه “النقلة” النوعية على محدوديتها و… بداهاتها.
فدمشق تخوض المفاوضات مع الأميركي وكأنها “الحرب الأخيرة” وتحاول ما أمكنها تحديد الخسائر وحصر الأضرار فيها. وهي تخوضها بكفاءة ملحوظة.
لعل بعض الصنوبر يبقى أخضر في قلب قتامة الخريف العربي الطويل!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان