لأن الأخضر الإبراهيمي يقرأ ويتابع ويهتم بنجاح مهمته الدقيقة. فقد اتصل – مشكوراً – ليقول إن رسالتنا وصلت و”إن شاء الله لا يكون إلا الخير”،
والرسالة بسيطة لخصها عنوان الافتتاحية في “السفير” يوم أمس: “حتى لا يكون جنود العرب حرس حدود للتقسيم اللبناني”.
ومع التقدير للإبراهيمي واتصاله المطمئن إلى وعيه بالمخاطر التي ما زالت تتربص بنا في لبنان وبمهمته، ومع الترحيب، تكراراً، بجهده المشكور باسم جامعة الدول العربية، ومن خلفها العالم كله، من أجل حفنة من أيام الهدوء والترقب المشحون بالقلق..
مع هذا كله فمن حقنا أن نخاف وأن نحذر وننبه ونلفت إلى مصادر خوفنا لأنه يتصل بمستقبل بلادنا ومصيرنا فيهاز
فالأمر يتجاوز شخص “الضابط الصغير” ونواياه المعززة ببطاريات المدفعية الثقيلة والصواريخ وجنون العظمة ورعونة المهووس بالسلطة ولو على المقابر وأشلاء الربيع الصريع.
الأمر هو أمر لبنان، أرضه وشعبه ودولته: هل يكون جهد الجامعة العربية، ومن خلفها “دول” العالم، من أجل تمكينه من استعادة وحدته الوطنية وجمهوريته ذات النظام الديموقراطي البرلماني وأرضه طاهرة مطهرة من دنس الاحتلال الإسرائيلي، أم يكون مجرد هدنة من أجل تمرير قمة الحسن الثاني وما يخطط لتمريره فيها من “إنجازات” أميركية على صعيد تصفية القضية الفلسطينية؟
هل الهدوء المؤقت والمشروط في لبنان يمهد ويخدم الحل السياسي، الوطني والقومي كما نفترضه، والمتعذر إنجازه الآن، أم هو يخدم ويثبت الأمر الواقع القائم بما يلغي احتمالات الحل مستقبلاً، ويعطينا بدلاً منه كارثة قومية جديدة تفوق فلسطين مأساوية وتأثيراً مدمراً على الغد العربي العتيد؟
إن اللبنانيين جميعاً مع الهدنة، بل إنهم مع السلام الوطني المعزز بالرعاية العربية الموفرة للرعاية الدولية المطلوبة،
ولكن السؤال عن طبيعة هذه الهدنة، وعن الوظيفة العربية ومن ثم اللبنانية لها.
هل هي هدنة بين الجلاد وبين الضحية، يلتزم خلالها كلاهما بموقعه محتفظاً بسلاحه؟!
وهل من سلاح للضحية إلا دمه؟!
وهل وظيفة الجامعة العربية أن تحرس الهدنة ومعها الواقع السياسي (والعسكري) القائم، وأن تتولى بجنودها حراسة حدود الكانتون الذي آلت دويلته إلى ميشال عون بالنتيجة؟!
أم وظيفة الهدنة أن تلغي الحدود وتسقط الكانتون، ولو نظرياً، لأن الجامعة العربية ومعها “الدول” ما زالت تعتبر لبنان وطناً واحداً لشعب واحد تضمه جمهورية واحدة؟1
وإزالت الكانتون، بل منع قيامه أصلاً، هي واجب قومي يعني جامعة الدول العربية وكل عربي إطلاقاً بقدر ما يعني كل لبناني،
فالكانتون، حيثما وجد، مشروع إسرائيلي، وقتاله مهمة مقدسة تفرض نفسها على كل عربي يحلم بغد أفضل ويريد لأبنائه الكرامة مع السلامة،
حتى أحمد عبد العزيز الجاسم الذي “شاف شي…” فشهد بما شاف وسمع، وكأنه قد اكتشف البارود، معني بقتال التقسيم لأسباب كويتية بقدر ما هي لبنانية.
والكانتون، يا أبا نائل، أخطر قليلاً من دوي المدافع الذي سجلته أذنك المرهفة برغم كل ما كانت قد سمعته قبل ذلك عن مطار التقسيم حتماً في حالات!
في كل الحالات، لا نظن إن مجلس الجامعة العربية قد التام على مستوى وزراء الخارجية ليقر بتقسيم دولة لبنان فيثبت رئاسة ميشال عون للكانتون “المسيحي” مرجئاً البحث بمصير سائر الخلق، من مسلمين ومسيحيين، إلى فرصة أخرى!
كذلك لا نظن إن مجلس الجامعة قد التأم محاطاً بكل ذلك التأييد العالمي المريب، وبرعاية مباشرة من الأمين العام للأمم المتحدة الذي جزم (!!) بأن الحرب في لبنان لا هي أهلية ولا هي طائفية (!!)، من أجل أن يقرر فقط وقف إطلاق النار، مع الحفاظ على النار ذاتها بمصدرها ومُشعلها وأسبابها وصفائح الزيت المعدة لتغذيتها كلما هدأت.
أكل ذلك الحشد من أجل “هدنة” مهزوزة وعرجاء ومليئة بالثغرات بحيث يستطيع ميشال عون أن يمرر منها مطاره الموروث عن جعجع في حالات؟!
للمناسبة يقول عون في أوساطه إنه طرح موضوع مطار حالات حتى لا يعود جعجع فيطالبه بالحوض الخامس (أي بمرفأ بيروت) بعدما سلم بوجود المرافئ “غير الشرعية” في الأوزاعي وخلدة والجية…
فهل الجامعة العربية هي المعنية بحماية “شرعية” عون من مطالب جعجع “غير الشرعية”،
وهل الجامعة العربية هي الجهة المعنية بالترخيص لمطار غير شرعي لتعزيز “شرعية” ميشال عون و”شرعية” وراثته لمشروع جعجع التقسيمي؟!
إنها هدنة “بين الأطراف اللبنانيين المقتتلي”، في ما نعلم،
وليست هدنة بين “عدوين” أحدهما داخلي والآخر خارجي، بحيث يكون تثبيت الأمر الواقع تمكيناً للطرف “الوطني”، أي الداخلي من الصمود، في انتظار الحل الموعود.
بهذا المعنى فشرط الهدنة أن يتوقف تدفق السلاح عن “الأطراف المقتتلين”،
أي إن شرطها أن يقفل البحر (والبر) فلا تجيء شحنات السلاح الثقيل وأكداس الذخيرة بحيث تصير جولة ما بعد الهدنة أعنف وأشرس مما كان قبلها.
… وليس شرطها أن يفتح، تحت علم الجامعة وبإشراف مراقبيها، مطار بائس ومهجور في ظل انقسام خطير في السلطة وعلى الأرض بحيث يوفر مصدراً إضافياً لسلاح لا يخدم إلا التقسيم وإلا نحر مشروع الحل العربي العتيد في لبنان.
إن الخلاف بين “الأطراف اللبنانيين سياسي أولاً وأخيراً،
إنه خلاف حول وجوه الخلل في النظام وحول السلطة وطبيعتها الفئوية التي تترك الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني بمسلميه ومسيحييه ، بمن في ذلك القسم الأكبر من الموارنة، خارج نادي الحكم ومغانمه وخارج دائرة المواطنة وحقوقها.
وأي سعي إلى الحل لا بد أن يتجه بداية إلى صميم المشكلة السياسية،
والهدنة، إذن، تفترض تجميد المشروع السياسي المضاد الذي يلوح به التقسيميون، إذا ما تعذر ضربه وإسقاطه تماماً.
الهدنة يجب أن تعود بالوضع إلى ما كان عليه في 22 أيلول 1988، وليس إلى ما كان عليه في 14 آذار 1989، علماً بأن التاريخ الواقعي ليوم ما قبل الوضع الشاذ الذي تسبب في التفجير الأمني هو 6 آذار 1989.
الهدنة يجب أن تعيدنا إلى مناخات الانتخاب الرئاسي والطروحات الاصلاحية التي سبقتها ورافقتها (والبعض يضيف وعطلتها نتيجة للتعنت الماروني في مواجهة الاصلاح).
فالمرافئ كانت مفتوحة، وكذلك المعابر والمرافق عموماً، ولم يكن بينها مطار حالات، بل كان قد سحب من التداول قبل ذلك بسنتين تقريباً، وقبل أن يسجى على أرضه المهجورة جثمان الرئيس الشهيد رشيد كرامي.
وكانت الأزمة السياسية قائمة تنتظر حلاً.
ولقد بدا، للحظة، وكأن مشروع الحل جاء عبر الاتفاق الأميركي – السوري حول الاصلاح والانتخابات وشخص الرئيس العتيد.
وإذا كان مشروع الحل ذاك قد أسقطه أمين الجميل بتعيينه ميشال عون رئيساً “لحكومة استقلال وأكثر”، كما وصفها سمير جعجع الذي قام بدور القابلة، فلا يمكن أن يكون البديل المقبول “دويلة” للجنرال الأرعن تحرسها عيون المراقبين العرب الآتين باسم “جامعتهم”.
وإسقط ذلك المشروع هو السبب الكامن في تفجير “حرب العماد” التي تحاول الجامعة الآن وقفها بالهدنة الهشة التي أعلنتها والتي سيجيء المراقبون العرب لحماية الالتزام بها.
… لكن الأزمة منا زالت هي هي أزمة سياسية خانقة مصدرها وجوه الخلل في النظام وتعنت يرفض أي إصلاح حتى لو أدى الأمر إلى ما أدى إليه من خراب ودمار واهتزاز لعلة وجود لبنان ككيان.
ومطار حالات، ذريعة أخرى للهرب من الموضوع الأصلي، ولإغراقنا في سلسلة من التفاصيل ننسى معها إن ميشال عون، بوجوده حيث هو في الملجأ الجمهوري، عقبة فعلية في طريق الحل.
… وللتذكير فإن مواقع قمة السلطة في لبنان شاغرة، ولا تنفع الهدنة في ملء الشواغر.
وهدنة الفراغ لا تحسم أمر حرب الحفاظ على الشغور.
والمسألة واضحة، فالعماد يبتز العرب واللبنانيون منهم، بمطار حالات حتى لا يناقش أحد أمر وجوده في الملجأ الجمهوري.
وحماية الهدنة تكون بوقف الخروقات السياسية لمضمونها، أما الخروقات الأمنية فأمرها هين، لأنها تعالج بالسياسة.
والأخضر الإبراهيمي من دهاقنة السياسة والمعالجات الدقيقة،
ولأننا نريده أن ينجح كانت هذه الرسالة الثانية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان