… وفعلها!
ببساطة فعلها، بهدوء، بيد غير مرتجفة، ولم يكن للذعر أثر في عينيه.
كان الذعر في عيوننا نحن الذين أجلسنا العجز إليه، نتأمله ونتابعه كالبلهاء.
لم نكن نملك، هذه المرة، فرصة الهرب من الوجع الممض إلى عدم التصديق أو توقع سقوط غضب الرب على شكل صواعق تطيح بالطائرة ومن فيها.
كان هادئاً، وكان نصل السكين يخترق أطنان البيانات والتصريحات والخطب التي خدرتنا وضللتنا وباعتنا الأوهام، ويخترق معها وجوه الملوك والرؤساء والمشايخ والأمراء والسادات والوجهاء، ويمضي وئيد الحركة حتى يصل إلى القلب فيغوص فيه متثاقلاً، دون أن يقتلنا!
كان طبيعياً. ولقد ابتسم مرة، أو اثنتين، والبعض قال إنه أخرج لسانه بمرح للرافضين والقابلين، وقيل إنه غمز لهم بعينه بما يفيد إن كل شيء يسير وفق الخطة المرسومة: هو البطل بالخيانة أما نتائجها فلهم جميعاً و”الأجر على قدر المشقة”.
كان هادئاً، وكنا جميعاً هادئين، فلقد روضونا، طاسة ساخنة منه وطاسة باردة منهم فإذا نحن بلا أعصاب، بلا حسن، خشب مسندة، وعيون مبلدة تطل من وجوه مكدودة فترى المنظر الذي أعدت لاستقباله ولتقبله طوال سنين وسنين حتى لم تعد تملك أن ترى أو تتصور وجود غيره!
وفعلها،
باسمنا جميعاً فعلها.
ولن يفيدنا الإنكار إلا في تعذيب النفس، فلو إننا غير موافقين لمنعناه، لعزلناه ، لقتلناه، وكان الطريق مفتوحاً أمامنا لكي نأخذ منه مصر فتحولنا عنه عن سابق قصد وتصميم، بل وأوجعنا مصر ضرباً حتى عادت إليه صاغرة مصعرة الخدين!
واستغربنا أن تستغرب مصر هذا الجزاء يأتيها منا بغير ذنب ارتكبته ، فهل هي تريدنا أن نعاملها بأحسن مما نعامل أنفسنا، ومن ساواك بنفسه فما ظلم!
ولهذا كله كان بوسع واحدنا، أمس، أن يرى كثيراً وكثيراً جداً من الوجوه الأليفة والمعروفة جداً لديه على شاشة التلفزيون الأميركي الصغيرة… بل لقد هم بعضنا بأن يقوم لمصافحتهم فرداً فرداً لولا وقار مؤتمرات القمة!
على أن هذا “المشهد” المهين والجارح لكرامة الأمة وكبريائها ليس نهاية الدنيا ولن يكون.
بل لعل في اكتماله بعض الخير: لعله يعيدنا إلى الحقائق الأصيلة، إلى طبيعة الأشياء، إلى البديهيات، إلى الأبيض والأسود منهياً عصر الرماد الذي غرقنا فيه وتهنا فلم نعد نميز بين الصديق والعدو، بين الحليف والطامع، بين المهزوم بنصر والمنتصر بهزيمة، بين السلام والاستسلام، بين الخائن والمناور ومستدرج العروض بوهم الحرب والتخويف بالطوفان الذي سيكتسح الأرض لو أن شراً أصاب كرسيه الفخيم!
هي نهاية الدرب إذن، وكل من سار عليها وصل، سواء ابدأ من الشمال أم من اليمين أم من الوسط.
لقد عرفنا السادات بالمواصفات التي يجب أن تتوافر في الوطن والقومي والتقدمي والمقاتل من أجل التحرر: يجب أن يكون نقيضه في كل شيء، في المنهج كما في الأسلوب والممارسة. هو إقليمي وقطري وكياني إلى حد الفرعونية، إذن فالحثى والآشوري والفينيقي والكلداني والحميري والقبائلي (ناهيك بالطائفي، حتى لا ننسى لبنان) سينتهي إلى النقطة ذاتها حتى لو اختار طريقاً أخرى للتمويه. هو بوليسي ودكتاتور يحكم شعبه بالأجهزة والعيون الساهرة، إذن فطريق النقيض لا تكون إلا عبر الحرية للشعب، كل الشعب. هو “منفتح” على الإمبريالية والسوق الرأسمالية العالمية، إذن فلا يمكن أن يكون نقيضاً إلا الاشتراكي والمؤمن بحق المستضعفين في الأرض في أن يكونوا أصحابها. هو نزيل القصور والاستراحات، مالك الماء والهواء والأرض والشجر، المتصرف بمصر تاريخاً وجغرافياً، إذن فالمطلوب والمرتجى من ينزل بالسلطة إلى بيوت الفلاحين التي من طين، ومن يظل أضعف من شعبه وأصغر من وطنه حتى تبقى محاسبته ممكنة وفعالة.
على أن هذا “المشهد” ليس نهاية الكون ولن يكون، إذا نحن فعلنا، فنحن – نحن الناس العاديين والبسطاء – من يصنعون البدايات والنهايات.
وها هي التجربة الإيرانية العظمية نابضة أمام عيوننا بعد، وكل هؤلاء الذين “سهرنا” معهم ليلة الأمس كانوا هناك في طهران يساندون ويدعمون ملك الملوك، لكنهم عجزوا عن حمايته فسقط وسقطوا معه تحت ضربات القبضات القومية للفتية السمر وحدها.
وفي انتظار فعلنا تظل البطولة معقودة اللواء لركب الخيانة الذي كان أوله بالأمس في واشنطن لكن رهطه الأصلي هنا في أرضنا الفيحاء!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان