عنوان عودة الدولة، أو قيامتها، هو أن يستعيد لبنان عاصمته بيروت.
فلا دولة من غير عاصمة بمعنى المركز والقلب: مركز الحكم بسلطاته جميعاً، مركز الإدارات والمؤسسات والبيوتات المالية، مركز السفارات والسفراء، مركز الثقافة والعلم (الجامعات والمعاهد) مركز الاشعاع الحضاري (وهو تعبير يحبه اللبنانيون)، وعقدة المواصلات (الميناء، المطار، الاتصال والتواصل مع سائر أنحاء البلاد).
العاصمة هي كل الجهات. هي الجنوب والشمال، الجبل والبقاع، ثم إنها بيروت.
ومنذ أن خسر لبنان عاصمته خسر “جمهوريته”، وخسر وحدة شعبه، وصار مصيره على بساط البحث، إذ بدأ يفتقد مبررات وجوده وتجسيد هذا الوجود، أقله بالمعنى السياسي.
وأول توكيد على نجاح قمة دمشق إنما يتمثل في استعادة العاصمة.
والعاصمة كانت وما زالت وستبقى: بيروت، ولو ممزقة ومشطورة بالحديد والنار شطرينز
ومع التوكيد على أن بيروت في عيون أبنائها كما في عيون أشقائهم خارجها ستبقى واحدة وغير قابلة للانقسام أو التقسيم، وفي انتظار استعادة وحدتها عملياً، فمن الضروري التعامل مع غرب العاصمة على أنها “بيروت”، مركز الحكم وقلب الوطن.
فلا عاصمة حيث لا حياة سياسية،
وحيث يهيمن ميشال عون تم تعطيل الحياة السياسية بالكامل.
لقد ألغى الأحزاب، واسقط النواب، وحذف بقرار منه البطريرك الماروني، وشطب كل معترض أو معارض أو متحفظ أو صامت، ليبقى القائد والزعيم الأوحد، وحده لا شريك له ولا حليف.
كذلك لا عاصمة حيث لا صحافة.
ولقد ألغى ميشال عون الصحافة وأجهزة الأعلام عموماً، إلا من سلم بوحدانيته وتعامى عن الحقائق السياسية القائمة في البلاد.
لا حزب إلا حزب ميشال عون، ولا أعلام إلا خطب ميشال عون ودروسه في التربية، ولا دولة إلا حيث يعتصم في ملجأ القصر الجمهوري، ولا حكم إلا شخصه، ولا شعب إلا ذلك النفر المحتشد من حوله يهتف له “بالروح بالدم، نفديك يا عماد”!
أما في العاصمة المجرحة والممزقة والمضطهدة والمنتهكة حرماتها جميعاً، فما زال للحركة السياسية وجودها وفعلها، وإن كان نبضها قد خفت بسبب التشوهات الميليشياوية التي أصابت الأحزاب والقوى السياسية والهيئات والشخصيات عموماً فجنحت بها نحو الغرائز الطائفية.
وما زال للصحافة وجودها وفعلها وجمهورها المستعد للنزول إلى الشارع (وتحت المطر)، والذاهب للاعتصام معها في نقابتها، والذي ساندها وحماها من إيذاء الميليشيات وغيلان الطوائف في الأيام السود التي عاشتها العاصمة بكل من فيها.
كذلك فإن بيروت عادت، مرة أخرى، مركزاً للحكم بمؤسساته الشرعية جميعاً: رئاسة الجمهورية، رئاسة المجلس النيابي، والمجلس المؤقت (الجديد)، رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء والوزارات، إضافة إلى الإدارات العامة والمؤسسات العامة (والخاصة) والمصرف المركزي.
لكن بيروت، العاصمة، مصادرة ومغيبة.
وعلة غيابها اختلال الأمن، وبين أسبابه المعلنة وجود خطوط تماس والحاجة إلى جهد الميليشيات “الخير” في الذود عن أهاليها البؤساء.
لكأنما في “الشرقية” أمن حيث دولة، بينما في العاصمة – بيروت – دولة يضعف حضورها ومصداقيتها وفعاليتها اختلال حبل الأمن فيها.
وقرار قمة دمشق باستحضار بيروت كعاصمة هو هو قرار بقيامة الدولة اللبنانية، وهو هو قرار بتحول الحكم ورموزه من ضيوف ثقلاء على منازل أصدقائهم إلى سلطة حقيقية قادرة وملبية لاحتياجات الناس، ولو بحدها الأدنى.
ومؤكد فإن قمة دمشق لم تقصد بقرارها أن يبقى حبراً على ورق، أو يكون سبباً لخطة أمنية جديدة تلحق بسابقاتها من الخطط الجميلة التي أعدت ولم تنفذ، أو أجهض التنفيذ وهو بعد في مراحله الأولى، أو أفرغت الخطة من مضمونها فوئدت استرضاء لهذه الميليشيا أو تلك.. ودائماً بحجة خطوط التماس، كأنما تلك الميليشيات هي علة وجود بيروت وصمود أهاليهاز
ولئن الحكم في لبنان قد عاد من دمشق مأخوذاً بجدية القيادة السورية وبصدقها في دعمه ومساندته وتسهيل مهمته.
ولئن الحكم في لبنان هو المطالب وهو المسؤول أولاً وأخيراً،
بل ولأن مصداقية هذا الحكم وقدرته على ممارسته سلطته تتوقف على استحضار بيروت كعاصمة، كدار أمان وواحة للديمقراطية ومركز للشرعية (ومن ثم للسفارات) وكقلب للوطن..
لهذا كله ينتظر اللبنانيون عودة الروح إلى عاصمتهم ليتأكدوا من قيامة دولتهم ومن قرب نهاية الأوضاع الشاذة، بدءاً بالحالة الانقسامية في “الشرقية”، انتهاء بارتكابات الميليشيات والعصابات المستفيدة من غياب الدولة في “الغربية”، مروراً بهذا العجز الفاضح والمعيب عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات للمواطن وعاصمته كرفع القمامة وتأمين الماء والكهرباء وطوارئ العلاج والاستشفاء ومعها الخدمات البريدية والهاتفية والمواصلات.
بيروت هي ولادة الحكم (والشرعية)، تكون فيكون وتغيب فيغيب،
وفي انتظار التنفيذ السريع والجدي لقرار قمة دمشق سيسهر اللبنانيون على قيامة عاصمتهم الأميرة، سهرهم للاطمئنان على سلامة الأم وهي تضع طفلها الأول.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان