“عزيزي رئيس التحرير
“هذه رسالة مني أنا “العابر”: أي لا أحد بالذات، وإن كنت كل وأي واحد منكم.
“عابر” هذا هو اسمي وكنيتين أما هويتي فتصريح ممهور بخاتم يحمل نقشاً لوصمة العار، وتوقيعاً لا أستطيع فك طلاسم حروفه، وأما الوطن فمزق من الأرض متناثرة خلف أو قدام “المعابر” يحملني في القلب وفي القلب أحمله وإن كنت لا أستطيع أن أصل إليه وأدخله ولا هو يستطيع احتضاني بلهفة الأم إلى وحيدها العائد بعد طول غياب.
“أنا عابر، حتى على هذه الصفحة، فأنا من خارج سياق الاهتمامات وشؤون الساعة ولكن لا بأس أن تقرأوا – أو تسمعوا – بين الحين والآخر كلاماً عادياً من مواطن عادي من أمر غير عادي، وإن بدا للوهلة الأولى وكأنه لا يتناسب وجدية المسائل المصيرية والحاسمة التي تشغل “الكبار” الآن، كمثل تشكيل الحكومة وعدد وزرائها وكيفية توزيع الحقائب المحدودة على لائحة المستوزرين التي بلا حدود.
“أنا عابر، وأكتب هذه السطور وقد أنهيت لتوي مغامرة بائسة هي عذري في لغتي الجارحة، إذ أشعر إنني بحاجة لأن أصرخ معبراً عن الوجه الذي ينهش صدري ووجداني، حتى يسمعني العالم كله، وأهلي أولاً، ولم أجد غيركم منبراً لاطلاق الصوت وإيصاله إلى من هو معني بعد بأن يسمع ويلمس جرح الوطن.
“فأما المغامرة فهذه تفاصيلها بالدقة:
“استيقظت مع الشروق، وركبت سيارتي متجهاً من بيروت إلى قارة منسية تدعى البقاع الغربي، سلكت طريق الأوزاعي – خلدة – عرمون – قبرشمون – جسر القاضي – كفرفاقود – دميت – دير دوريت – بعقلين – السمقانية – المختارة – عماطور،
“حزيناً كنت، تجتاحني تلك الهموم التي تعرفون وتعيشون، وإضافة إلى الحزن كان يتنامى في الصدر قلق ممض: أتراهم يسمحون لي بالعبور؟!
“قبل أن أبلغ “المعبر” في باتر، كنت قد تأكدت من إنني سأعود أدراجي خائباً فكل سيارة مرت بي راجعة امتدت منها الأيدي وارتفعت منها الأصوات تدعوني إلى الرجوع : لا أمل، لا تحاول، وفر على نفسك مزيداً من الوقت والأعصاب وعد!! لا فائدة، فاقنع بهذا القدر من الذل وعد!
“عنيداً كنت فتابعت التقدم ببطء ، ضمن القافلة المحكومة بأصبع ذلك الجندي الإسرائيلي الذي يجعل من نفسه تخماً للوطن!!
“تركت السيارة، وقصدت مشياً على الأقدام إلى حيث التخم، هممت بالكلام فرد بإشارة من يده. ألححت ، فكرر الإشارة، أبرزت البطاقة والتصريح وذل الحاجة إلى العبور فقذفني بشتيمة، داريت عاري، ونكصت على عقبي حتى التقيت جماعة من المنتظرين “لعل وعسى” يتبدل القرار وتقبل طلبات الذل فتتغير إشارة الأصبع.. وما أسهل بعد ذلك أن نمشي الكيلومترات العشر على القدمين حتى نصل إلى النقطة التي يسمح لها فيها باستعمال سيارة أخرى للوصول إلى حيث نقصد!
“هلا أزعجكم إذا رويت بعض ما عرفت وسمعت من زملائي في المغامرة الفاشلة؟!
“روى لنا أحدهم حكاية سائق الشاحنة المسكين، الذي مات بالأمس خلف المقود، قال بعضهم إنه أطلق الهواء الساخن حتى لا يموت برداً فمات اختناقاً، وقال آخرون بل مات لأن ورقته سقطت. على إن ثمة من همس بأذني إنه قضى كمدا: “طق ومات بحسرته. الله يرحمه، طاف عليه شعوره بالاذلال فقضى نحبه ولولا بعض التحفظ لاعتبرته شهيداً”!!
وروى “عابر” متمرن “حكاية الحامل التي جاءها المخاض إلى قلب السيارة، وفشل الجمهور في مساعدتها ، فانتقلت إلى جوار ربها راضية مرضية، تارجة وليدها يصرخ نيابة عن الناس جميعاً أو بهم جميعاً والله أعلم!
وروى آخرون حكايات أخرى ليس بينها ما يؤنس، فلملمت حسرتي واتجهت إلى سيارتي واتخذت طريقي في اتجاه المديرج عبر بيت الدين – المعاصر – الباروك – عين زحلتا – نبع الصفا – عين داره، وحين بلغت شتورة انتعش في صدري الأمل: لعلهم لم يقفلوا معبر غزة أيضاً!
“في المرج كان قلقي يهدر في صدري بصوت يطغى على صوت محرك السيارة… وقبل أن أصل إلى المعبر التقيت بالعائدين يجرجرون ذيل الخيبة وعلى الوجوه تلك الحسرة المتخلفة عن الشعور القاتل بالعجز الذي يستولده الاذلال!
قال لي أحدهم: لم نستطع حتى أن نصل إلى “النقطة” والنقطة هنا هيكل سيارة محترقة، إلى جانب الطريق، تقف عندها وتنتظر إشارة بالرصاص من جنود العدو القابعين خلف دشمهم في التل المواجه. إن تقدمت أكثر مما يجب أطلقوا رصاصاً في الهواء، وإن كان العدد أكثر مما يجب أطلقوا الرصاص بين أقدام العابرين، ليرتدعوا فلا يخالف أحدهم النظام!
مضغت بأسي لبعض الوقت وعاركت عجزي فغلبني، فطويت ضلوعي على جرحي الجديد وعدت أدراجي في اتجاه بيروت.
قلت لنفسي: طريق جسر القاضي طويلة وصعبة، فلأتسلح ببطاقة الوظيفة ورصيد الصداقات القديمة ولأسلك طريق فالوغا – بيت مري – وصولاً على “معبر” المتحف.
بلغت ساعة العبد قبيل الثالثة بعد الظهر.. كان الطابور طويلاً، طويلاً، تنتظم فيه أصناف السيارات جميعاً: الشاحنات الضخمة، الصهاريج، سيارات الأجرة والسيارات الخاصة حاملة القادمين من الشمال (عبر حاجز البربارة الشهير) أو من الجبل أو من البقاع. مئات السيارات تتكدس متلاصقة، وكلها مجمد لا تتحرك عجلاتها ولو متراً واحداً وفجأة دوى الانفجار الأول، فالثاني ، فالثالث، وهطلت طلقات الرصاص مطراً والتفت حولي فإذا في كل سيارة وجوه هي الرعب مجسماً. الرجال حائرون، يدارون خوفهم خجلاً من النساء، ويحاولون أن يفعلوا أي شيء فلا يجدون ما يفعلونه غير إطلاق الشتائم، وإطلاق منبهات سياراتهم، والنساء ينشجن بحرقة، وتحار كل منهن أين تخبئ الأطفال، وكيف وماذا تفعل لطمأنتهم، أما الأطفال فيا للوعة، ويا للفيجعة، ويا لضيعة العمر، والآمال والأحلام الوردية!
“بعد ثلاث ساعات بالتمام والكمال، كان موقعي في موكب المذعورين قد بات قريباً من البوابة، وبعد نصف ساعة أخرى، كنت قد بلغت بسيارتي “التخم” وكان المطر ينهمر متسبباً في مشاكل إضافية للناس المحتجزين داخل قفص الرعب والذعر المتزايد مع اقتراب موعد الإقفال: السادسة مساء!! وارتفاع الصرخة الآمرة بأن عودوا من حيث أتيتم؟! وإلى أين تكون العودة ومن أين وعبر أي طريق وأي بوابة وأي تخم؟! والذين في “الرانج روفر” يذهبون ويجيئون ويمسحون بعيونهم نوايانا ليكشفوا ما في الصدور!
أخيراً وبضربة حظ قدر لي أن “اعبر” فأصل إلى بيتي وأجلس لأكتب بالانفعال كله هذه السطور التي قد تكون مزعجة.
نسيت أن أخبركم إنني كنت في الطريق إلى قريتي لأمشي خلف جنازة أختي.. رحمها الله ورحمنا واياكم.
ولولا إنني سمعت ما وقع لجاري لكن همي عظيماً، لكن مصائب الآخرين تخفف عليك مصيبتك ألسنا بعد شركاء في المصائب؟!
جاري؟! آخ يا وطني!! لقد توفي والد الجار الطيب، وهو جنوبي، وعز على أبنائه أن يخالفوا وصيته فيدفنوه في غير مدفن الضيغة وهكذا سعوا إلى تأمين تصريح، ففوجئوا بإقفال “المعابر” وكان على أبناء الفقيد أن يهدروا الكثير من كرامتهم (ومن مالهم) وهم يتوسطون بعض كرام الناس حتى أمكن تأمين سيارة تابعة للصليب الأحمر الدولي رضي سائقها بنقل الجثمان إلى مسقط راس الفقيد،
كانت الشروط واضحة: واحد فقط من أهل الفقيد يصحبه في الرحلة الأخيرة وتنازل الأبناء للأم التي صارت أرملة، ووقفوا على الباب يلقون النظرة الأخيرة على والدهم الراحل ويوصونه “سلم لنا على الوطن”.
“عابر أنا؟! ليست عابر سبيل، ولا أرتضي أن أتحول إلى عابر في وطن، أو يصير وطني مزقاً متناثرة خلف وقدام المعابر المحروسة بحراب الاحتلال وحواجز الاذلال المحلية كائنة ما كانت الشعارات التي نعطيها.
“أنا ابن هذه الأرض وصاحبها لها أنا وهي لي، أنا قمحها وطينها، وردها والبرتقال تينها والزيتون والسنديان وهي معنى العمر ونبع الطموح ومبرر المستقبل ومصدر الفرحة المفتداة وأصل العزة والكرامة والإحساس بإنسانيتي.
“لقد عدت خائباً اليوم، واعرف الآن السبب: إنني قصدت “المعبر” وارتضيت أن أكون العابر.. والحق الحق أن أدخل الأرض وأزيل من فوقها الذي أذلها ويذلني، فهو العابر لا أنا، وقد آن أن ينتهي زمن الذل والاستسلام له، والانصراف عن أسبابه إلى حكاية الحكومة وعدد الوزراء والحقائب وكيف توزع أو يوزع ما فيها!
واختم رسالتي بالاعتذار عن الحدة في اللهجة، لكنه الذل، حماكم الله من وطأته، فأهون منه الموت، وانى تكون للحياة طعم طالما إننا “عابرون” في وطننا الذي يتحدثون عنه وكأنه عابر هو الآخر. فلا يبقى بعده إلا العدو والطائفية والمذهبية والمنتفعون أو المرتبطون بهذه الأوبئة جميعاً.
وأرجو أن تنشروا صرختي ، لعلها تنفع في دفع الناس، كل الناس، إلى الدخول إلى الوطن والاستقرار فيه، فهو لا يكون إلا بهم، كما إنهم لا يكونون إلا به، والسلام على من أتبع الهدى”.
طبق الأصل
مع التقدير لكل أولئك الرجال الذين يتحملون مثل هذه المشاق وأكثر لكي يؤمنوا ما أمكن من أسباب الاتصال بين رموز الوطن ومواطنيه في المناطق المحتلة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان