باستطاعة كثيرين أن يقولوا الآن مع الرئيس الفرنسي ميتران أنهم كانوا يتوقعون فشل الانقلاب في الاتحاد السوفياتي.
وباستطاعة آخرين أن يزيدوا فيقولوا: بقدر ما كان الانقلاب في موسكو متوقعاً فإن فشله كان منتظراً وأكيداً بل وحتمياً في ضوء عجزه الفاضح عن تقديم ما يبرر وقوعه واستمراره كسلطة جديدة في الإمبراطورية القديمة.
لقد ظل “الانقلابيون” أسرى “النظام” الذي أرادوا إسقاطه.
حتى وهم يعترضون عليه كانوا يستخدمون لغته ومنطقه ويؤكدون انتماءهم إليه، كما صاغه الرجل الذي خلعوه: ميخائيل غورباتشوف.
وفي حدود المعلن فإن الانقلابيين لم يقولوا كلمة واحدة تشير إلى “ثباتهم” على ولائهم لعصر ما قبل غورباتشوف والبيروسترويكا، أي عصر “الحزب القائد” بمؤسساته الشديدة المركزية و”المقدسة” بوصفه “مصدر الشرعية” ومركز القرار السياسي والاقتصادي والعسكري، وصولاً إلى أجهزة الاستخبارات ذات السمعة الأسطورية التي تهاوت خلال ساعات.
بل إن “البلاغ الرقم واحد” للانقلابيين كان يمكن أن يصدر عن غورباتشوف نفسه وبتوقيعه، خصوصاً لم يكن أقل منهم انتقاداً للفساد وانتشار الجريمة والدعارة والرشوة والتسيب وهدرثروات البلاد وعمليات التخريب التي أدت إلى إنقاص الإنتاج ومفاقمة الفقر والعوز والجوع في الدولة العظمى التي تشغل سدس مساحة الكرة الأرضية.
لقد استفز الانقلابيون “الموجة الجديدة” في البلاد من دون أن يضمنوا تأييد ما يسمى عادة “الحرس القديم” الذي لم يكونوا – في ما صدر عنهم – يتوجهون إليه أصلاًز
وكما في الداخل كذلك في الخارج: لقد توجه الانقلابيون إلى الغرب ذاته بخطابهم، وإلى الولايات المتحدة الأميركية بالتحديد، فطمأنوا إلى استمرار عملية “الاصلاح الديمقراطي”، وأغفلوا ذكر الماركسية والشيوعية وكل ما يذكر بالاشتراكية حتى اسم لينين الذي ينظر إليه السوفيات (والروس أساساً) كبطل وطني عظيم وضع الاساس المادي لتحويل الإمبراطورية المتهاكلة والممزقة إلى دولة عظمى تمد راياتها الحمراء فوق أربع رياح الأرض.
لم يتوجهوا إلى الغرب كخصم، وإلى الولايات المتحدة كمنافس أو كشريك (ناهيك بالعدو عقائدياً واستراتيجياً)، ولم يحاولوا اكتساب أنصار “النظام الشيوعي القديم” سواء داخل حدود اتحادهم المهدد بالتمزق أو في أوروبا وسائر أنحاء العالم.
وهكذا ما إن خرج العالم من تأثير الصدمة وبدأ يدقق في هوية الانقلابيين واسباب قوتهم حتى ترنحوا هم وفقدوا تماسكهم وظهروا كنمر من ورق استغل ضعف السلطة المركزية وغياب “الضابط” لكي يجرب حظه في وراثته بلا تعب حتى إذا فشلت المحاولة ذهب إليه في منتجعه بالقرم معتذراً ومعلناً التوبة والندم!
كان انقلاباً بلا قضية، سياسياً وأيديولوجياً واقتصادياً وعسكرياً، وعلى امتداد الساعات الأربع والعشرين ساعة الأولى التي حظي بها لم يفعل غير الإخفاق في تحديد هويته وأهداف حركته.
لم يستجمع الحزب وأجهزته، بل هو فشل في جمع المكتب السياسي ليمنحه الشرعية المفتقدة حتى حزبياً.
ولم يستقطب الجيش لأنه لم يربط وظيفته بمهام استراتيجية وبطموحات تليق بقدراته وعديده وتؤكد على الدورالكوني لدولة عظمى كالاتحاد السوفياتي… بل لقد بدا وكأنه يضع هذا الجيش الذي يفتقد الدور فيمواجهة شعوب الاتحاد جميعاً، بمن في ذلك الحزب.
وكان طبيعياً أن يرفض الجيش هذا الدور، وأن تسحب المخابرات يدها، فيتعرى الانقلابيون ويكون سقوطهم عظيماً حتى من قبل أن يتحرك أحد لإسقاطهم!
لقد كان الانقلاب بمثابة صحوة الموت لقوى لم تعد مؤهلة لمواجهة شوق السوفيات إلى الديمقراطية وإلى الكرامة وإلى ممارسة عظمتهم “السماوية” على الأرض.
ولعل الذين يفتقدون الاتحاد السوفياتي على المسرح الدولي، كقطب آخر، هم الذين أسبغوا على الانقلابيين صفات ليست فيهم، لعلهم ألبسوهم الدورالذي يتمنون لو عادت موسكو تلعبه.
ولأن الانقلاب كان “حلم ليلة صيف” لمجموعة من العاجزين عن القيادة، فقد انتهى بنصر أميركي إضافي مؤزر سيدفع ثمنه كل الذين كانوا يحلمون بعالم أكثر تماسكاً وقدرة على مواجهة الهيمنة الأميركية المطلقة على الكون وإنسانه البائس والفقير والمتشوق إلى الخبز مع الكرامة وليس فقط إلى صورة جورج بوش وتعاليمه اليومية!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان