يصر حزب الكتائب على التأكيد، دائماً، إنه أكبر “سناً” من الاستقلال واعتق وأسبق منه في تاريخ لبنان الحديث، بدليل إنه ولد وقال كلماته الأولى في ظل الانتداب الفرنسي وبلغته.
ويصر الكتائبيون القدامى على القول “إنه لولا الحادي والعشرون من تشرين الكتائب، لما كان الثاني والعشرون من تشرين الاستقلال”…
وصحيح إن الكتائبيين القدامى أوردوا هذا القول، مرة أخرى، أمس، وهم يرثون تمثال الشيخ بيار الجميل المنسوف في بكفيا، وفي مجال الرد “على بعض الصبية الذين يمعنون تدميراً في مجتمعنا الحر”، إلا أن كثيرين قد استذكروا إن مثل هذه التعابير والتوصيفات كانت تطلق على الكتائبيين بالذات حتى ما بعد “استقلال الدولة” في العام 1943 بكثير، وتحديداً حتى المباشرة ببناء “دولة الاستقلال” على يدي الجنرال فؤاد شهاب في العام 1958.
على إن الكتائبيين القدامى يشبهون “الزجالين” في لغتهم السياسية القائمة على “البهورة” و”الفشر” والمبالغات والادعاءات والعنتريات التي تجاوز كل حد معقول… فلا بأس إن هم ردوا على “الجنرال” الآخر بمثل هذه الأدبيات التي انتهى أوانها.
عذرهم إن تمنياتهم قد شاخت مثلهم، وإن حزبهم “السباق” دائماً قد سبقهم إلى العجز، وها هو يعلنه يومياً وبالطقوس “الزجلية” ذاتها: أفلا تذكرك مساجلات جورج سعادة – ميشال عون بجوقات الزجل طيبة الذكر ونجومها اللامعين من شحرور الوادي إلى زغلول الدامور؟!
إحدى وخمسون سنة؟! هذا كثير على حزب ارتكب كل هذه الكمية من الأخطاء المميتة، وولد كل هذا القدر من العمى الطائفي ومن “المؤسسات” الناتئة والنابية والمتنافرة مع طبيعة بلد هش التوازن في تركيبته، كلبنان، واستنبت مثل هذا العدد من قادة الحرب الأهلية الذين تحولوا – في غفلة من الزمن – إلى قادة للبلاد ومخلصين للعباد في ظل الهزيمة القومية وبفضل مناخها المرضي.
وباعتبار إن الطائفة العظمى تعيش خريفها السياسي، فمن الطبيعي أن يكون حزبها وجيشها الرديف و”بطل” حروبها ضد الطوائف الأخرى قد بلغ أرذل العمر، ودخل في حالة غياب عن الوعي وعن الفعل ,ان يكون قراره قد صار رهينة في يد مستولداته ومشتقاته: “القوات” وحكيمها سمير جعجع، بداية، و”الجيش” الأصلي للطائفة بعدما وفر له المتحدر من أصل “قواتي” ميشال عون النقاء الطائفي المطلق.
هي سنة التاريخ!
فكل القبائل الجاهلية انتهت باكل “الهتها” التي اصطنعتها،
والطوائف، بهذا المعنى، قبيلة جاهلية، بما فيها الطائفة العظمى،
وكل النظم الفاشية والنازية انتهت بتدمير مسقط رأسها والمجتمع الذي أنبتها ورعاها ونماها وسلمها قياده، وسط حماسة “شعبية” تلتف حول “عصبية” عدوانية بالضرورة ضد العالم أجمع.
و”سقوط” بيار الجميل في بكفيا، ولو كتمثال، يجسد النهاية الرمزية، ولو مأساوية، لهذا الحزب الذي ارتبط اسمه بالفترة الأكثر حزناً ومأساوية في تاريخ لبنان والوطن العربي الكبير.
وبعيداً عن الشماتة والمواقف الأخلاقية، فمن المنطقي والطبيعي تماماً أن ينسف تمثال “القائد المؤسس” لهذا الحزب أولئك “الصبية” ذاتهم الذين رباهم ليكونوا أتباعاً لذريته من بعده، والذين وصفهم أمين الجميل ذات مرة بأنهم أقرب ما يكون إلى خدمه، وإن مهمتهم الفعلية “أن يلفوا لنا السندويشات”!
لقد طالما كلفوا بأن ينسفوا الآخرين، أشخاصاً وتماثيل، قيماً ومفاهيم، طوائف ومؤسسات “حكومية”، ومع اكتمال الدائرة فقد كان طبيعياً أن ينسفوا من علمهم أسلوب النسف وكلفهم به.
ولقد تضخمت أعداد المنضوين تحت لواء الكتائب، في فترة من الفترات، حتى صاروا يعدون بعشرات الألوف، لكن الحزب ظل حزب الرجل الواحد.
لم يتسع هذا الحزب الهائل عديده، ذات يوم ، لغير شخص واحد هو مؤسسه. حتى لقد ضاق بأسرة القائد المؤسس أو الكتائبي الأول… والأوحد!
أمين الجميل ذاته لم يستطع أن يكون الكتائبي الثاني في حزب المقعد الواحد للرجل الواحد!
أما بشير الجميل فلقد أتبع خطى أبيه، وهكذا اخترع كتائبه الخاصة، “القوات اللبنانية” لكي يكون الكتائبي الثاني. فلكل كتائبه. ولا بأس من قتل قائد ميليشيا الحزب ليشغر منصب القائد فيها فيحتله بشير بالتواطؤ مع أبيه ليكون “الأول” في الطبعة الجديدة من الحزب القديم… هذا من غيرأن ينسيا إرسال أكاليل الزهور وتقدم مسيرة التشييع الحاشدة لوليم حاوي، وذرف الدموع الحرى والالتزام بكل موجبات الحزن والحداد الرسمي!
القائمة داخل الحزب طويلة . القائمة خارج الحزب وداخل الطائفة أطول. آل فرنجية. آلا شمعون. الميليشيات المتفرعة والنابتة بغير إذن هنا وهناك. لا بد من “التوحيد” . لا بد من “الجبهة اللبنانية”. لا بد من إعداد مقعد واحد للقائد الأوحد.
أليس في السياق نفسه تجيء التصفيات التي توالت في قيادة “القوات” بعد رحيل بشير الجميل؟!
فادي أفرام، فؤاد أبي ناصر، إيلي حبيقة، سمير جعجع… وصولاً إلى ميشال عون؟
أليس في السياق نفسه تجيء الاعتداءات على المقام البطريركي وشخص البطريرك، النواب، الشخصيات السياسية والوجوه الاجتماعية التي فكرت بأن تقولا “لا”؟!
بل ألا تجيء في السياق نفسه تصفية أمين الجميل في بكفيا، بعد ساعات من مغادرته قصر الرئاسة في بعبدا الذي أوكل بحراسته الكتائبي الرابع (إذا افترضنا أن جعجع هو الثالث) ميشال عون؟!
لقد صفي الأحياء من القادة، كتائبيين وحلفاء في “الجبهة اللبنانية” و”القوات اللبنانية”، فماذا يضر أن “يصفى” تمثال من حجر، ولو كان تمثال القائد المؤسس؟!
بعد ثلاثين سنة ونيف على دخول الكتائب نادي الحكم بقرار من جنرال، ها هو يخرج أو يكاد من هذا النادي ومن الحياة السياسية عموماً بقرار من جنرال آخر!
فالعام 1958 أراد الجنرال فؤاد شهاب، المستشعر ضعفه تجاه طموحات طائفته إلى الهيمنة، أن يؤكد ولاءه لمارونيته، فكان إن جاء بالكتائب إلى السلطة.
ولمن نسي، فإن القرار اتخذ بعد أن قام “بعض الصبية” بإحراق أطر السيارات وإقفال بعض الطرق في “الشرقية”، فكانت النتيجة إن تغيرت كلية صورة العهد الذي طمح إلى بناء دولة الاستقلال، وتغيرت وجهته وأهدافه والكثير من سياساته.
خاف الجنرال من الطائفة، فكان أن ضحى بحلمه في الدولة،
وتدريجياً صارت الدولة – إضافة إلى الجنرال – أسيرة الحزب الذي صادر الطائفة وعين نفسه سيفها وحامل رايتها وناطقاً باسمها وممثلاً لها في السلطة.
بل إن حزب الرجل الواحد سرعان ما تخلى عن الجنرال شهاب، ثم انقض عليه وعلى نهجه، عبر مساهمته في بناء “الحلف الثلاثي” حاضنة الحرب الأهلية التي تحولت – في ما بعد – إلى وسيلة للحزب من أجل الهيمنة الكاملة على الدولة والقفز إلى قمة السلطة، من على ظهر دبابة الغزو الإسرائيلي.
اليوم يعيد التاريخ نفسه معكوساً:
فالجنرال المتحدر من أصل “قواتي”، و”القوات” هي سليلة الكتائب وطبعة الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي منها، يستشعر في نفسه قوة تمثيل لحمى السلطة التي اجتاحت الطائفة مع وصول آل الجميل إلى الحكم، بما يغنيه عن بواقي الحزب العتيق و”زجاليه”.
إنه مشبع بحمى التعصب والأحقاد الطائفية بحيث لا يستطيع أي كتائبي، بل أي “قواتي” أن يزايد عليه.
إنه “زبدة” الزبدة مما أنتجه الحزب!! إنه “زبدة” بشير الجميل وما تبقى منه، فأين منه أمين أو حتى بيار الجميل ذاته؟!
إنه “الطائفة” كما لم يككنها أحد! الطائفة بلباس جيش الشرعية وبمدافعها أيضاً!
إنه “رحيق” الطائفة. إنه “صميم” الطائفة. إنه كل “شبق” الطائفة إلى السلطة واحتكار السلطة، إنه “ثمالة” الثمالة في كاس الطائفة، إنه مجسد شعار: ما لنا لنا وما لكم لكم ولنا!
إنه بديل الحزب و”القوات” معاً. بل هو بديلهما وبديل البطريرك الماروني ذاته. وبطبيعة الحال فهو بديل الكهنوت جميعاً والسياسيين الموارنة جميعاً.
لقد كبر “الوليد” على والده، لقد فاق “التلميذ” أساتذته جميعاً، لقد بر “الجندي” قائده وتجاوزه.
ما الحاجة إلى الوالد، إلى الأستاذ، إلى القائد، إلى المؤسسة.
ها هو “الرجل الواحد” يجدد نفسه ويعطي لنفسه تلك “الحقوق” التي ادعاها مجموع الذين تعهدوه بالرعاية والتنشئة ودربوه على تصفية الآخرين وإلغاء الآخرين وشطب الآخرين حتى لا يبقى غير الواحد الأحد!
جاء بهم جنرال الدولة فؤاد شهاب لكي يكونوا “رباطه” مع الطائفة، و”عروته الوثقى”، ويكاد أن يذهب بهم جنرال دولة الطائفة ميشال عون مع طموحات الطائفة إلى تأكيد ذاتها في السلطة عبر “الرعاع” منها وليس فقط عبر رجال الدولة وأبنائها البررة،
وها هو جنرال آخر يذهب بهم، ويكاد يذهب بالطائفة، تحت الشعار ذاته: احتكار السلطة وإلغاء الآخرين، باسم حق الطائفة “الالهي” الذي سكنه فتقمصه حتى العظم!
ها هو النبت الشيطاني السام يقتل زارعه،
ها هو السيف الذي استخدم لحز الرقاب يرتد على حامله فيرديه،
ها هو الكتائبي الرابع ينسف الكتائب وتاريخها كله،
والكلمة من قبل ومن بعد للطائفة التي تحملت وحملت لبنان هذا الوزر الثقيل كله، ولمدة نصف قرن أو يزيد!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان