البحيرة راكدة بعد… وهي أكثر هدوءاً اليوم، وأرتال البط السارح عند الضفة بادي الانشراح والانطلاق كونه لا يسمع ما ينغص عليه التمتع بشمس الربيع المبكر!
فمعظم المؤتمرين قد أمضوا نهارهم خارج الفندق يمارسون ما يحبونه ويتقنونه تماماً. تناول طعام الغذاء المتميز والفريد من نوعه في أرقى المطاعم وأغلاها وأجملها موقعاً. وتبادل اللياقات والمعلومات عن مراكز السياحة والمتعة والنزعة، وعن أصناف الطعام ومدى تطابقها أو خروجها على مقتضيات “الريجيم”، وكذلك تبادل القفشات والنكات القديمة عن أصدقاء أو وافدين جدد، من المعجبين المستعدين لدفع الفاتورة لقاء صورة أو خبر أو خبرية عن اللقاء والغداء، وشخصية الداعي وعظمة المدعوين، مما يشكل زاداً يزيد من رصيد النجاح الاجتماعي ورصيد المصارف أيضاً. فزيادة الخير خير وسبحان مقسم الأرزاق.
والوقت فراغ فلا عمل، والحديث مع أي من المتبقين هنا مضجر وثقيل على النفس، فكيف تحاور سمكة؟ وكيف يمكنك أن تسمع راضياً مرضياً أسطوانة مشروخة تطن في سمعك منذ عشرين سنة أو ثلاثين؟ وكيف بالله عليك تناقش من ولد من غير أذنين، فهو يتكلم ويتكلم ولا يسمع، فإذا ما سمح لك بأن تسأل فإنه يقاطعك قبل أن تنتهي الجملة الأولى. ثم ينطلق في إجابة لا تنتهي، تزدحم فيها تلك الكلمات المعادة إياها على ما لم تسأل عنه، وفي مناقشتك في ما لا تقول أو تقبل به، وفي مجادلتك في ما لست معنياً به، ومغالبتك في ما ركب لك هو من رأي، ثم يستمتع بدحضه وتسفيهه وهو يركز عينيه الواسعتين والجامدتين داخل صفحة وجهه الجامدة ملامحه، على وجهك ليسبر غور تأثيره فيك واستدراجك إلى الإيمان بزعامته الفذة.
وكيف بالله عليك تحاور قطباً آخر، يقول ما لا يؤمن به وما لا يتمسك به وما لا يعبر عن رأيه الحقيق. وما يعرف إنك تعرف إنه شيء آخر غير رأيه وغير ما يسعى إليه، إذا صدقت وقعت في فخ الخديعة وإذا استغنيت عن اللقاء خفت أن يفوتك أمر جلل وإذا ناقشت كنت كمن يدخل في مصارعة حرة مع رجل له ضعفاً عمر المرحوم جدك، وله مكانة ومعجبون وجمهور غفير من المؤمنين بحنكته وبراعته وجدارته بالزعامة، وكلما اكتشفوا أو عرفوا عنه المزيد من المباذل وحفلات الخداع والغش ازدادوا إعجاباً به، وكلما سمعوا عن صفقة عقدها ونال نصيبه من السمسرة فيها قالو بتلذذ.. وسادية “صحتين على قلبه!! الشاطر ما يموت”
وحتى إذا ما بدّل مواقفه كما يبدل قفطانه واستدار 180 درجة صاحوا بالإعجاب “الله.. الله.. شوفوا المهارة، شوفوا الشطارة، شوفوا الطهارة، شوفوا العبقرية”، حتى إنه لم يهتز ولم يتلعثم ولم يرف له جفن. “هكذا تكون الرجولاة وإلا بلا”، “شو بدنا بالحكي يا عمي، النمر بضل نمر حتى لو صار عمره ألف عام”.
البحيرة هادئة تماماً.. برغم إن الإذاعات وأجهزة التلفزة تضج بتصريحات رئيس الجمهورية الواحدة بالكثير والخطير من الأمور.. والممكن محدود وقليل ومعروف ومبتور.
ومع الليل المضاء ببدر يحمل اليك على صفحة الفضة وجوه من أحببت، يسود الصمت ويأخذك القلق على غدك، وعلى أولئك المهجرين والمهجورين في الضاحية البعيدة للمدينة البعيدة.
أهؤلاء المجتمعون هناك قادرون حقاً وبغير حقد أو غل أو موقف مسبق على استيعاب آمالهم وأحلامهم وطموحاتهم وتطلعاتهم ناهيك بالقدرة على تحقيقها، هذا إذا افترضنا بحسن نية إنهم يريدون حقاً لهم الخير ولا يمانعون في أن يكون لهم غد أفضل؟
كيف يستطيع هذا الذي سماه ابنه “المدموزيل الفريدة” بسبب حديثه الدائم والممل عن الصيغة الفريدة وعن دوره الخارق في ابتداعها أن يفهم ماذا يعني عصر التطور العلمي المذهل الذي نعيش بتأثيراته غير المحدودة على المفاهيم وطبيعة الحياة والعلاقات الاجتماعية وحتى على القيم السائدة؟
كيف سيفهم هذا المثبت إبرة الراديو على الإذاعة المكرسة لتصريحاته، فقط من أجل أن يتلذذ بسماع إنتاج عبقريته الونمية، ومن أجل أن يجبر الآخرين على سماع مديحه لنفسه ولمنطقه حين يتساءل أمامهم بتجاهل “ترى من قال هذه الكلمات الممتازة؟! صحيثح إنه تصريحي أنا ، اليوم قبل الظهر”؟
كيف سيفهم هذا الثمانيني، ماذا يعني أن يكون الإنسان قد صار “يكزدر” الآن في الفضاء الأعلى بين عطارد والزهرة والمريخ، وإنه يبني المحطات فوق الأوتوبيس الفضائي.. وكيف سيفهم ماذا يعني الكومبيوتر ومدى تأثيره على حياتنا اليومية وعلى وتيرة التطور الذهني والعقلي الذي يرفع الإنسان إلى أعلى عليين ويجعله يقترب أكثر فأكثر من مرتبة الكائن القادر على اجتراح المعجزات اعتماداً على أسس علمية صرفة، ولا سحر فيها ولا شعوذة ولا دجل ولا تدخل من قبل الخالق عز وجل. إلا بما خصه للإنسان من رعاية ومن هداية ومن تحريض على طلب العلم في كل مكان وزمان؟
كيف يمكن لأمثال هؤلاء أن يفهموا مجرد فهم، ماذا يدور في خلد الشباب من 16 سنة إلى سن الثلاثين، ماذا يحبون وماذا يكرهون، ما هي مثلهم العليا، من هم أبطالهم ومن هم نجومهم المفضلون، ثم ما هي مطالبهم من دنياهم ما هي مطامحهم، وهل يرتضون أن يعاملوا بأسمائهم الدالة على طوائفهم والمحددة بالتالي لحقوقهم وواجباتهم، بغض النظر عن مؤهلاتهم وكفاءاتهم وعدد السنين التي أفنوا خلالها أنفسهم وهم يدرسون ويتعلمون في أعظم جامعات الدنيا وأرقى معاهد “البوليتكنيك” ويتخصصون في الفيزياء النووية و”الأنفورماتيك” والالكترونيات وعلاج السرطان “بالكوبالت” أو الذرة الخ؟..
وكيف يمكن لهؤلاء أن يفهموا مجرد فهم إن بناء سويسرا في لبنان أمر غير ممكن لسبب بسيط، هو إن التقدم في سويسرا ظل ممكناً لأن “الزعماء” من أمثال من لدينا كانوا قد انقرضوا قبل عهد طويل من قيام الفيدرالية بكل كانتوناتها الثلاثة والعشرين،.. ولأن البشر لم يعاملوا بطوائفهم برغم حدة الصراع الطائفي أيام زمان، ولأن أحداَ لا ينكر على الآخر حقه في الحياة وفي نيل فرصة تتناسب مع قدراته ومؤهلاته بل مع إنسانيته ذاتها؟
الليل ساج، والبدر قريب منك قريب، يذكرك بأن الدنيا أجمل من أن تكون ضيعة هؤلاء، وأعظم من أن يتحكم بها فيفسد هؤلاء الذين أفسدوا علينا أمسنا ويومنا وأجيالنا الطالعة. حين حولوها إلى وحوش ضارية وحرموها هناءة الحياة بل إمكان الحياة.
وهكذا تجد نفسك محاصراً بين البحيرة والبدر بكل ما يعكسانه من حلاوة الحياة وزخمها وتجددها ولا نهائيتها، وبين هؤلاء الذين يحقرون إنسانيتك بتحجر مفاهيمهم، وبوقوفهم سداً في وجه تحقيقك لذاتك وبعجزهم عن استيعاب روح العصر وباستعدادهم لتدمير وطن بل أوطان من أجل أن يبقوا زعماء لعشائر وطوائف مختلفة، يمكنهم في كل حين استثارة غرائزها لتنقاذ إليهم ولتبقى من بعد شاهداً حياً على صدق وصفهم لها بالتخلف وبضرورة أن يبقوا فوق رؤوسها أوصياء.
هل المعروف عليك خيار، فعلاً!؟
قضيتك أن تجعله خياراً.
فاترك لهم الثرثرة وانصرف إلى شأنك واسترد حياتك، خذها بين يديك كما الحبيبة واندفع بها ومعها إلى ما وراء البحيرة الصامتة، تنتظر أن تفرد شراعك وتنطلق مع الريح إلى حيث المجد والعلم والإنسانية، بالرقة والحب ورعشة الشوق وهمس اللهفة إلى حيث الغد.
والخيار، أن تتركهم أمامك، فتموت خلفهم ولا حياة، لا يوم ولا غد، أو تجعلهم خلفك فتنال حقك في الحياة.
وكل ذلك يتقرر في بيروت، في الضاحية، في الجبل وفي الجنوب، لاسيما في الجنوب العظيم والذي ما صار عظيماً إلا بعدما خلص منهم وطهر أرضه من كل أفضالهم” وأخرها الاحتلال الإسرائيلي.
والغد لك شرط أن تأخذه بيديك، فخذه أنت وفي بيروت لأنهم لن يعطوه لك أبداً ولاسيما هنا.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان